الإفراج عن آراء العلماء المتسامحة في بعض الشئون المتماسة مع حياة الناس كالحجاب والاختلاط والغناء أثار عدداً من التساؤلات الوجيهة والتي تبحث عن إجابة منطقية.
أولها هل يحق للعلماء إخفاء نصف حقيقة العلم بدعوى التخوّف من تساهل العامة فيكون التحوّط في ذكر أكثر الآراء تشدداً وإخفاء ما هو متسامح لحمل الناس على رأي واحد هو الأشد والأكثر عسراً، بينما أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يخيّر بين أمرين إلا واختار أيسرهما.
تتبّع الرخص والبحث عن الأيسر كان ولا يزال مذموماً في أدبيات فتاوانا المعاصرة، وهو مثلبة لا بد أن يدفعها الإنسان عن نفسه باتباع الأشد وهو في الغالب التحريم حتى يكتسب صفة ملتزم أو تقي، مما أوجد تنافساً كبيراً في البحث عن الأحوط والتشديد على عامة الناس بالفتوى حتى يكون بينهم وبين الوقوع في المحظور مسافة عظيمة!
إن وجود الحرمين في بلادنا هو مدعاة للانفتاح على كافة الفتاوى والمذاهب والآراء؛ لأن بلادنا مفتوحة لشتى المسلمين وليست مغلقة على أهلها فقط، قد يكون من المقبول أن تكون الفتاوى في بلاد إسلامية أخرى فتوى محدودة بالمذهب المتبع لكن هذا لا يعد مقبولاً في بلاد الحرمين، فنحن بلد ينظر له كل المسلمين على أنه بلدهم وإذا حجوا إليها يريدون أن يسمعوا آراء وفتاوى في أمور حياتهم المتنوِّعة فهل نحكمهم بآرائنا وطبيعة حياتنا المختلفة عن حياتهم!
تنبه ملك البلاد عبد الله بن عبد العزيز لأهمية ذلك فنوّع في مذاهب أعضاء هيئة العلماء.
كما أن هذا التعدد والاختلاف الذي بدت عليه الفتاوى الأخيرة أراه ظاهرة صحية كان يفترض وجودها في حياتنا منذ تكوّنت هذه البلاد؛ لأن الاكتفاء برأي واحد واعتباره هو الراجح لأنه هو الأشد والأحوط أفقد حياتنا الكثير من الإحساس بالطمأنينة وهدأة البال، فالإنسان يعيش في قلق دائم إذا لازمه شعور ارتكابه لمخالفة شرعية، لذا يظل من المهم ذكر الآراء والأقوال المختلفة في موضوع ما والإفضاء بكل أوجه صحتها وتحريمها؛ لأن ذلك من الصدق مع الناس، لا يمكن قبول فكرة أن هناك علماً للعامة وآخر للخاصة، فالدين شأن عام ولا يقبل فيه احتكار العلم وجعل بعضه لفئة دون أخرى! كما أن الاختلاف في الآراء، والتعدد في الفتوى ظاهرة صحية لا بد أن ندعمها لأنها تشجع على البحث في فقه الواقع، ولا بد أن نتعامل مع اختلاف الفتوى بنضج ووعي ولا ننقل ثقافة المدرجات الرياضية وما يجري فيها من تشابكات لفظية عنيفة ولغة لمز وتحقير ويتم تبادلها بين أنصار المفتين الجدد وأنصار القدامى وكأننا في مدرجات النصر والهلال!!
F.F.ALOTAIBI@HOTMAIL.COM