كثرت في الآونة الأخيرة المساجلات والاختلافات، ويُعدُّ ذلك أمراً محموداً في المجتمعات التي تتطلع إلى المجد ما لم تحد من طموحها هجمات الإقصاء ونسقها التاريخي الحاد.. في كثير من الأحيان كان الحوار مبنياً على الاحترام المتبادل والرد من خلال الأساليب المتعارف عليها في عالم الثقافة والنقد، لكن في أحيان أخرى كان الإقصاء حاداً عبر نفي الرأي المخالف من خلال إيذائه ومهاجمته في شخصه وليس في رأيه، وقد سمعنا وقرأنا مؤخراً عن محاولات إقصاء بعض المجتهدين في حق الإفتاء، ويُعيدنا ذلك سريعاً إلى زمن الإقصاء بعد سنوات عدة من الحوار الوطني، ولعل أقصر طرق الهروب من المواجهة اتهام المختلف في الرأي معه في عقيدته أو بعدم التخصص..
أجد أن أحد أسباب هذه الانتكاسة السريعة أولاً غياب منهج يقرّ بحرية التعبير ويحميها من خلال قانون عام، وثانياً لم تكن تلك القفزة الأخيرة حقيقة، ولم تستند إلى أرضية نقدية، والسبب - حسب وجهة نظري - يكمن في عدم دخول السلطة بأوجهها كافة في الحوار، وقبل ذلك غياب المراجعة النقدية لتاريخ الإقصاء في تاريخ المسلمين، فالإقصاء دينياً تم اختزاله في محنة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وهو ما يستدعي إعادة تعريف الإقصاء وإخراجه من المواقف المؤدلجة الضيقة إلى رحابة الفكر، فالموقف من الإقصاء لا يجب أن يخضع لمواقفنا الأيديولوجية.. نحن في حاجة قصوى لمراجعة المراحل التي مرّ بها تاريخ الإقصاء عند المسلمين بدءاً من نفي الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري إلى الربذة، وانتهاءً بمنع المواطن حسن فرحان المالكي، ففي تأكيد مشروعية نفي أبي ذر ومنع حسن فرحان تشريع للإقصاء، كذلك بقدر ما نشجب ونستنكر مقتل الحجاج لسيد التابعين سعيد بن جبير يجب أيضاً أن نستنكر قتله لمعبد الجهني.. فالإقصاء لا دين له ولا مذهب.
لم يسلم من الإقصاء كبار مفكري وفلاسفة المسلمين.. فقد عاش الفيلسوف ابن رشد في قرطبة في القرن الثاني عشر الميلادي من أسرة عُرفت بالعلم والجاه، وكان - رحمه الله - ظاهرة علمية عالمية في زمن كانت فيه الثقافة متعددة التخصصات، فقد كان فقيهاً وعالماً في الشريعة، شغل منصب قاضي القضاة، وأيضاً كان طبيباً ماهراً، وقال عنه أستاذه ابن زهر (ابن رشد أعظم طبيب بعد جالينوس)، وفيلسوفاً عقلانياً ترجم أعمال أرسطو إلى العربية، ومن كتبه انتقلت علوم أرسطو إلى أوروبا. كان - رحمه الله - أحد ضحايا الإقصاء فقد أقصاه أبو يوسف يعقوب المنصور، وأساء معاملته، ثم اتهمه المنصور بالكفر والضلال والمروق وزيغه عن دروب الحق والهداية! فأبعده إلى أليسانه، وهي بلدة صغيرة بجانب قرطبة، ثم حرق المنصور جميع مؤلفاته الفلسفية وحظر الاشتغال بالفلسفة والعلوم عدا الطب والفلك والرياضيات.. لكن الحضارة الإنسانية أعادت الاعتبار إليه بعد أن تخلى عنه قومه لقرون.
كذلك عانى الفيلسوف العربي الأول الكندي من الإقصاء، وهو صاحب المقولة الشهيرة (يجب أن نأخذ الحقائق حتى لو كان قائلها من ملة غير ملتنا، وأن النظر في كتب القدماء واجب بالشرع، وأن الفرد لا يستطيع أن يحصل العلم وحده، ويجب أن نستفيد من بعض ومن السابقين)، وكان الخليفة المتوكل قد أساء معاملته كثيراً وأخذ كتبه منه بسبب آرائه، وقد أثبتت الأيام صحة فلسفته، فالحضارة لا بد أن تحتك بالأمم الأخرى وإلا فمصيرها الانهيار. والجدير بالذكر أن كتبه تجاوزت الألف كتاب، وكم يستحق هذا الفيلسوف أن نحتفل به سنوياً، فقد كان عقلاً مبدعاً وعالماً أضاء عصره بالعقل المؤمن المستنير.
قد يظهر منهج الإقصاء في أوجه عدة، منها الاتهام بعدم التخصص وبالجهل، ثم الدعوة للحجر أو النفي، ولا أجد فرقا بينهما، أو المنع من الظهور، كذلك يدخل فيه الدسائس وإساءة سمعة المخالف أمام السلطان، وفي ذلك تاريخ طويل لا يمكن حصره في هذه المقدمة القصيرة، ولا بد أن نخرج من تلك الدائرة القديمة، فقد سئمنا الجمود، وفي حاجة لقانون يعطي للمخالف حق إبداء رأيه ما لم يكن فيه سخرية أو تكفير أو تهديد للأمن. والله أعلم.