كنا نسمع من كبارنا من يقول: «رزق الهبل على المجانين»، ولم يكن يلفت سمعي في هذه العبارة إلا المفارقة بين الهبل والجنون، تمحيصا للفارق بين دلالتي الكلمتين، إذ كنت أذهب في الغالب إلى توظيفهما في معنى واحد فالهبل هو الجنون، إذن أحدهما يعطي والآخر يأخذ، فهما يتبادلان الأخذ والعطاء، إذن هما في تكافل وتناغم... غير أن هيئة إرزاق المجنون للمهبول لم تكن تتضح على أية حال لأن مابينهما من أمور يتبادلان لأجلها هذه العملية لم تكن على طاولة أي من الذين يرددون العبارة كلما كانت تمر بهم أسبابها، ومرت بنا السنون، واتسعت دائرة خروجنا من محاضن النقاء وأبوابها إلى الدنيا الكبيرة، الخليط من المشارب والمآرب، والممارسة والأفعال، فبدأت تتسع نطاقات الفهم، باتساع مجالات الاحتكاك بالمجانين والهبل في هذه الحياة, وبدأت دلالة حكمة الكبار تتوظف بقوة في كثير من سلوك الأخذ والعطاء بين من أصابتهم الدنيا بأدوائها، فكل مستغِل وكل مُستَغل أحدهما مهبول والآخر مجنون وكلاهما في دائرة العته وإن هم في كامل صحة عقولهم... لا ينجو من هذه الدائرة إلا من استوى عقله في يقظة من منافذ الأدواء وأولها الإسراف على النفس، في شؤون تغيير الشكل الذي خلق الله عليه ابن آدم، ومنها عدم القناعة بما قدره الله في خلقه مما لا يقبل الزيادة وقد قضي فيه قدر الله، سواء في الشكل الخارجي للإنسان طوله ولونه وتقاطيعه، وهيئته التي أسرف في تغييرها اللاهثون، وأهدر لأجلها الأموال، بينما هناك من يتضور جوعا ويتقلب في العراء, كما أن أهمها شراء كل متعلقات المظهر، وبيع كل مقومات المخبر...
إن الجنون، ليس له موعد ولا تاريخ ولا زمن، فقد بدأ منذ عجز الإنسان عن تغطية سوءة أخيه, غير أنه قد تضاعفت أعراضه في هذا الزمن وأصبح عصيا على العلاج.. إلا من رحم ربي فآمنه على عقله من لوثته.