|
اثنان أهل الأرض ذو عقل بلا دين
|
|
إن كان القصد الذي أراده أبو العلاء الإشارة إلى أن العقل والدين في تضاد، فإنني أردت أن أفهم القصد بمعنى أهمية العقل إلى الدين، وعظمة التقوى والعقل في رحابها يفهم، وبهدي من فهمه تسير به الحركة نحو المزيد من التقوى؛ حيث إن العقل هنا نورٌ للتقوى كما لو أنه سُخّر لها فتبسط التقوى اليدَ لتعبر عن فعلٍ بنّاء حتى لو كان الرفض من العقل ظاهراً وملموساً، وإن كان هذا من النادر حدوثه فغالباً أن كلاً من التقوى والعقل في حالة من تبادل دفع القوة لمزيد من الفاعلية لكل منهما، حيث إنّ الواحد منهما معينٌ له يهديه صواباً لا خطأ معه.
|
إن امتزاج الرؤية الراشدة بالتقوى المنبعثة من أصل الدين قمة في المنى، وهذا ما يأمله العبد في عبادته وسلوكه، فهو الذي ينشد الهداية بوحي من عقله، وحصانة من التقوى لديه.
|
وأعتقد أن أبا العلاء لم يكن قصده أن العقل ضد الدين أو العكس، حيث إن كلا منهما كمالٌ للآخر وقوة له، وأظن أن ما قصده أبو العلاء، وكما أفهم هو التأكيد على حتمية العقل للدين، فدينٌ بلا عقل قد يقود إلى المبالغة المقيتة، والحق سبحانه أكرم العقل ونبّه إلى أهميته فخاطبه وحثّه على إدراك ما أمكن من الحقيقة حيث ينطلق نورٌ من الحس الديني وبهديه ليحل في كيان المخلوق، وهو أمرٌ غير معتاد إلا بتوفر مثل هذه الحالة التي تلعب دوراً يُحفز الإرادة لدور تفعله له نتائج إيجابية على كامل السلوك الإنساني، فمن يسلط العقل ليفهم ويتأمل ويستنتج العبرة من قول الحق سبحانه {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ }الأنعام 116.
|
وإن كانت استشارة الغالبية وكما يفترض من إيجابيات لهذا، ومع ذلك فإن الآية تهدي الإنسان إلى سواء السبيل، فقول الحق فيه الفصل القاطع (وجوب مراجعة أسباب النزول، والصحيح من التفسير).
|
أظن أن من مقاصد أبي العلاء التنبيه لحالة الفهم حتى لا يقع الإنسان في الخطأ الذي يقع فيه الكثير من الناس المتمثل في الفهم الخاطئ للدين فيفسرون هديه ورخصه والحلال فيه بالحرام المطلق، فالإسلام قضى على الخوارق والمعجزات، ودعا إلى بصيرة قوية ومقدرة في رؤية العقل لتأتي بأثر وتأثير لتصون المسيرة من كل شطط وزلل.
|
إن الإشارة في هذا تؤكد إلى لقاء العقل بالدين، وهي حاجة ماسة أرادها الله للإنسان، وفي ذلك هدى نحو طريق مستقيم بروح من الدين الحنيف، وهذا ما سار عليه أبو العلاء المعري فهو القائل:
|
أستغفر الله في أمني وأوجالي |
من غفلتي وتوالي سوء أعمالي |
أقيم خمسي وصومُ الدهر آلفه |
وأدمن الذكر أبكاراً بآصال |
أليس في هذا مزيجٌ من تداخل العقل بالإيمان، وهذا يؤكد أن أبا العلاء الملقب ب(رهين المحبسين) تسكنه خواطر آنية فيسجلها شعراً متى قارنته بشعر من قوله في موضع آخر، فإنك واجدٌ فيها طابع الخاطرة التي من المفيد له ولغيره من قراء شعره إظهارها وإن كانت عرضة للتناقض.
|
|
صم وصل وطف بمكة زائراً |
سبعين لا سبعاً فلست بناسك |
جهل الديانة من إذا عرضت له |
أطماعه لم يلف بالمتماسك |
مرة أخرى نحن أمام مزيد من العقل بإيمانٍ لا يضاهيه ولا يتداخل معه شك أو ظن حتى وإن كان عن حسن نية.
|
ومن نافلة القول أن أشير مؤكداً فيما ذكرته في الموضوع كله، ولكني أرى عقلاً بإيمان، وإيمان له جذور راسخة في أعماقه، والله الموفق.
|
|