روسيا أدركت من حرب الاتحاد السوفيتي على أفغانستان الثمن الاقتصادي والاجتماعي والبشري للحروب والذي أدى في النهاية - إلى جانب عوامل أخرى - إلى سقوط الاتحاد السوفيتي، سبقها إلى إدراك ذلك اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية.
الصين هي الأخرى تعلمت من دروس الآخرين التكلفة العالية للحروب، فصبرت حتى انتهاء الاحتلال البرتغالي لجزر مكاو، واكتفت بحامية عسكرية تاركة لمكاوي نظامها الاقتصادي والاجتماعي، وكذلك فعلت في هونج كونج، وعلى الرغم من قدرتها العسكرية الحالية على غزو فرموزا (تايوان أو الصين الوطنية) وضمها بالقوة إلى الصين الشعبية إلا أنها لم تفعل، واكتفت بإبرام صفقة مع أمريكا لتحل محل تايوان في مقعد الصين في الأمم المتحدة ومجلس الأمن، والعمل الدبلوماسي للحيلولة دون تعزيز القدرات العسكرية لتايوان.
روسيا والصين تبنيا غض الطرف عن المغامرات الأمريكية والأوروبية العسكرية في الدول الأخرى كأفغانستان والعراق وباكستان، لا تحالفاً مع أمريكا والغرب بقدر ما هو إدراك منهما بتكلفة تلك الحروب التي ستثقل لا محالة الاقتصاد القومي للدول المحاربة، وهو ما حصل فعلاً حيث بلغ العجز في ميزانيتها أرقاماً فلكية، يصب في هذا السياق تصويت روسيا والصين لصالح قرار مجلس الأمن الأخير الخاص بفرض العقوبات على إيران، مع أن للدولتين مصالح اقتصادية كبيرة مع إيران، لكنها بنظرة إستراتيجية تمكنت من استثناء بعض تلك المصالح الاقتصادية من العقوبات، وبرؤية مفادها أنه كلما زاد الضغط على إيران زادت تنازلاتها لروسيا والصين، فضلاً عن تخفيف أمريكا وأوروبا لانتقادها لروسيا والصين فيما يتعلق بالحقوق المانية لشعوب الشيشان وأنغوشيا والتبت وجنوب الصين.
المسؤولين الأمريكيون أدركوا التكلفة الباهظة للحروب متأخرين فقرروا الانسحاب من العراق، بعد أن انسحبت بريطانيا، وها هي أمريكا وبريطانيا يخططان للانسحاب من أفغانستان واستبدلوا تهديدهم بالخيار العسكري واكتفوا ولو مؤقتاً بعقوبات اقتصادية ضد إيران ووصفوا السياسة الروسية بأنها مصابة بالانفصام في الشخصية لأنها عارضت العقوبات الاقتصادية الأمريكية والأوروبية الإضافية على إيران والتي لم يشملها قرار مجلس الأمن.
المفارقة اللوجستية الكارثية، هي أن تعمد أمريكا إلى تفتيش السفن الإيرانية بما خوَّلها إيَّاه قرار مجلس الأمن الأخير، ولأن إيران لن تسكت كما هدد بذلك برلمانها، فقد تندلع شرارة الحرب في الخليج العربي ولن تكتفي بتلوين مياه الخليج باللون الأحمر، بل من المتوقع أن تتعداها إلى كارثة بيئية أكبر بكثير من كارثة خليج المكسيك، ولأني لا أعلم ماذا يدور في كواليس قيادات دول مجلس التعاون الخليجي أو ما يعد لمواجهة أية تداعيات، إلا أنني واثق أن هذه الدول لا بد أن تكون قد أعدت خططاً وسياسات إستراتيجية وتكتيكية استباقية لتفادي تفاقم ذلك النزاع على حدودها، والاستعداد لتداعياته واستحقاقاته - إن حصل لا سمح الله - ذلك أن التصريحات الأمريكية الأخيرة بشأن خطر الصواريخ الباليستية الإيرانية على أوروبا ليست بريئة، وهي تذكرنا بتصريحات أمريكا وبريطانيا حول خطر أسلحة الدمار الشامل العراقية التي هيأت الأجواء لغزو العراق.