بشكل متكرر وسافر يتعرض صنف المواطن المثقف النزيه المستنير في مجتمعنا للتعريض بسمعته والتشكيك في ولائه وأخلاقياته وأهدافه، وإلى استعداء الإمعات ومن لا رأي لهم عليه، وربَّما تعرض للتهديد من العوالم السفلية في ماله وجسده وولده. تسألون لماذا يحدث هذا؟ لأنَّ هذا الصنف من الناس له في شؤون الحياة والمعاملات والعلاقات الإنسانية آراء أخرى تخالف آراء مهدديه والمحرضين عليه. أين يحدث هذا التهديد؟ يحدث على فضائيات التجهيل والتكفير وترويج الخرافات، ويحدث فيما يسمى بالديوانيات الأحدية والإثنينية والثلاثائية إلى آخر أيام الأسبوع، مثلما يحدث أحياناً في الجوامع المنزوية عن عيون المتابعة الشرعية والضبط الاجتماعي.
هنا يكون السؤال، ما هو السر في هذا العنف والإقصاء والفرز الاجتماعي، هل هو حقيقةً الحرص على الوطن، أم الحرص على النفس والنوع، أم أنه تحصيل حاصل للعقلية الأحادية المنغلقة التي لم تعتد سماع صوت مختلف. كل ذي بصيرة يدرك أن الشخص أحادي الرؤية مبرمج عقلياً على استقبال نمط محدد ومقنن من المعلومات والتعليمات، ولذلك لا يتوقع من عقله أن ينتج فكرياً سوى النمط نفسه المحدد والمقنن. إنه كالجهاز الذي لا يستقبل طرفياً إلا من مدخل واحد ومخرجاته من الطرف الآخر مجرد إعادة تشكيل سطحي لمداخيله. هذه النوعية من العقول منتشرة في بيئتنا الاجتماعية والثقافية والتربوية، وتمتلك أيضاً - وللأسف - أفضلية عددية هائلة في برمجة عقليات نمطية جديدة على شاكلتها، لأن أصحاب الرؤوس الممسوحة الجاهزة للتعبئة ما زالوا هم الأغلبية الساحقة في المجتمع السعودي.
لهذا السبب نجد أن أصحاب العقليات أحادية الرؤية لا تتوجه بخطابها إلى أصحاب العقول المنفتحة ذات المدارك المتعددة، لأنهم يعتبرون أولئك هم الأعداء الخطرون الحاملون لفيروس التطوير والتحديث والتقدم إلى الأمام. إذاً، بدلاً من الدخول في جدل نافع أو حوار إيجابي متجرد من الأحكام والتهم المسبقة مع من يحمل عمقاً ثقافياً مختلفاً، نجد أن النافذين من أصحاب الرؤية الأحادية يركزون على استهداف أصحاب العقول التي لم تعثر بعد على أنوار العلوم والمعارف، فيمعنون في تعبئتها بأكبر قدر ممكن من التهويلات واستثارة المخاوف والتحذيرات من الضياع والتغريب والتبعية. إنهم بداهة لا يحتاجون إلى المجهود الذي تتطلبه مهمة الإقناع والإقتناع لتعبئة وعاء لا يحتوي سوى القليل البسيط من المسلمات والمفاهيم الاجتماعية، لأن المقاومة داخل مثل هذا الوعاء تكون منخفضةً ويسهل الضخ فيه، علاوة على أنه لم يعتد بعد على مداخل أخرى إلى دنيا المعرفة غير ذلك المدخل الوحيد الذي شكله له المجتمع المتماثل المتطابق المتكرر.
على الرغم من كل هذه الميزات التي يتمتع بها أحاديو الرؤية في الاستفراد بإمكانيات البرمجة الاجتماعية، فإن تلك الفئة الأخرى الصغيرة نسبياً من أصحاب الرؤية التعددية المنفتحة تتمنى لو أن الأمور وقفت عند هذه الميزة ولم تتجاوزها إلى السفاه اللغوي واختلاق الأكاذيب والإشاعات والتحريض الاستعدائي، وأحياناً إلى التهديد المادي والجسدي الموجهة إلى الآخر المخالف لذي الرؤية الأحادية الجامدة.
إذا أضفنا أفضلية البرمجة الاجتماعية إلى إمكانية مرور التعديات على المخالف في الرأي بدون مساءلة ولا عقاب، نكون قد عرفنا لماذا صار الإرهاب عندنا هماً كبيراً وتهديداً خطيراً ونشاطاً ميدانياً لجمع الأموال والسلاح والمتفجرات. إن الإرهابي الذي يرتكب التدمير والتفجير والتقتيل عبر الخلايا السرية مجرد امتداد طبيعي وشرعي لذلك الشخص أحادي الرؤية الذي يحاول برمجة السامعين على شاكلته.
إنني أعجب من ضيوف الديوانيات حين يستمعون إلى إنسان غضوب متجهم محرض يلقي بالتهم جزافاً في كل اتجاه، وهم يعرفون أنه مجرد مختلق ملفق لأكثر ما يقول، ولا يبادر واحد منهم بالوقوف في وجهه والطلب منه بوقار الوطني الشجاع الغيور أن يقول خيراً أو يصمت.
ماذا لو قام في أحد هذه الديوانيات أحد المثقفين الذين يسمونهم باللبراليين أو المعتدلين تحقيراً، ماذا لو قام أحد هؤلاء وطالب المستمعين بنبذ القبلية النتنة والابتعاد عن المذهبية البغيضة والإكثار من اختلاط الأنساب بالتزاوج تقوية لأواصر المجتمع.. ترى كم عدد الذين سوف يبادرون إلى الصراخ في وجهه يطالبونه بالتوقف عن هذا الهذيان الوطني المضاد للثوابت والعادات والتقاليد إلخ إلخ إلخ!؟