لا فرق عندي بين الإفراط والتفريط تماشياً مع المقتضى الشرعي واستلهاماً لقول الشاعر: «كلا طرفي قصد الأمور ذميم».

فالذين يمارسون السخرية والتهكم بالعلماء والمفكرين المهتمين بهذا الجانب من البحث العلمي في سبيل نفي الإعجاز العلمي..

....في القرآن الكريم جملة وتفصيلاً، لا يختلفون عمن يطلقون العنان لخيالاتهم وتخرصاتهم ويجعلون من القرآن الكريم رسالة علمية تجريبية بحيث لا يعنى إلا بوضع النظريات العلمية، فكلا الطرفين مجازف، وكلاهما يرجم بالغيب ويعيش تحت هوج العواطف الجياشة أو تحت وهج الانبهار بالغرب والتذيل له واستبعاد المبادرة العربية ولو في الإرهاص للنظريات العلمية. وإذ يكون القرآن الكريم مظنة الإعجاز البياني بالدرجة الأولى - وهو ما يكاد يتفق عليه جل العلماء - فإن له لفتات إعجازية في سائر العلوم والمعارف، ولكنها لفتات لا يجوز أن تلهي العلماء عن الهدف الأسمى والغاية الرئيسة للقرآن الكريم. والتدبر للآيات - المأمور به - يمر بالإنسان على أشياء لا تخطر على البال؛ فالقرآن لا تفنى عجائبه، وآلاف المفسرين الذين توسلوا بخلفياتهم الثقافية ومنطوياتهم المعرفية وأهوائهم المذهبية أضاؤوا جوانب من كنوزه غير أن البعض منهم وقعوا في المحذور حتى قيل عن تفسير الرازي: «فيه كل شيء إلا التفسير»، وكانت لبعضهم شطحات ولآخرين عثرات مهلكة، ولست هنا بصدد الحديث عن اتجاهات التفسير في القديم والحديث، وقد تكون لي إلمامات عازمة فيما أستقبل من أيام، وبخاصة حين فرغت من قراءة مؤذية لكتاب ألَّفه صوفي متعفن اسمه «عباس عبدالنور»؛ لقد تجرد من إنسانيته وإسلاميته حين تحدث عن محنته مع القرآن، ومن قبله قرأت شطراً من تخريفات «محمد شحرور». وللخلوص من المأزق فإنه متى أحس المتأمل في كتاب الله من غير أولي التخصص العلمي بأن هناك إشارات علمية فإن عليه أن يفسح المجال لذوي الاختصاص العلمي، وأن يستحث العلماء التجريبيين للإمساك بطرف الخيط الرفيع والمضي عبر المختبرات والمعامل للنظر فيما إذا كانت هذه الإشارات الربانية يمكن أن تنتقل بالمتأمل من الفرضيات إلى النظريات، وأن تكون أرضية للانطلاق إلى آفاق أرحب تستقطب التجارب العلمية وتستنطق الحقائق المادية وتزداد من خبرة العلماء الباحثين في جميع أنحاء العالم، ولا يقف حيث تقوم معارك المفاضلة والادعاء. وليس عيباً أن نأنس بالمبشرات؛ فالرسول - صلى الله عليه وسلَّم - إذا سمع ما يؤيد رسالته من رؤيا أو خبر حبب إشاعته، وتقوية الإيمان وزيادته مطلوبة. وكم من عالِم أسلم لمجرد تلاوته لآية وفهم مدلولاتها. ومقولة الرسول - صلى الله عليه وسلم - «بلغوا عني ولو آية» ذات مقاصد دعوية قد يجهلها البعض، بحيث يرى أن دعوته بالتخويف والترهيب والترغيب كافية، وما درى أن بعض الآيات تنطوي على لفتات علمية تترك أثرها البالغ في نفوس المستمعين من غير المسلمين. ولِمَ لا والله يقول {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِه الْعُلَمَاءُ..} وهذا المقطع من الآية جاء في سياق توجيهات علمية بحتة تتعلق بالماء والثمرات والجبال والناس والدواب والأنعام واختلاف الألوان والطعوم؛ فدلَّ على أن المقصود بالعلماء ما لهم علاقة بهذه المخلوقات من أطباء ومهندسين وفلكيين وعلماء طبيعة، وليس يمنع من أن يشمل ذلك علماء الشريعة والعقائد، غير أن التفسير السياقي والدلالات الخارجية تؤكد أن المقصود بالعلماء أوسع مما يراه البعض.

وعلى العلماء الذين يشتغلون في الإعجاز العلمي في القرآن ألا يقطعوا بصحة ما توصلوا إليه؛ فالباب لما يزل مفتوحاً أمام احتمالات الصدق والكذب في الفرضيات والنظريات على حد سواء، ولا يجوز أن نرتهن القرآن القطعي بالنظريات الاحتمالية التي قد تكون زائفة في يوم من الأيام، كما أن الانقطاع لهذه المهايع لا يختلف عما سلف من انقطاعات فلسفية وبلاغية وكلامية ارتهنت القرآن وحبسته في تلك الأنفاق الضيقة. القرآن رسالة أزلية مفتوحة ومحفوظة لكل الأجيال، والقرآن الكريم قابل لقراءات عدة، ومن ألهمه الله استنباط حقيقة علمية أو حكماً شرعياً فإن عليه ألا يقفل الطريق أمام الاجتهادات المستكملة لشروطها وإمكانياتها، وقضية الاجتهاد شغلت علماء الأصول. وأقل الناس حظاً من العلم والعقل من يدعو إلى قفل باب الاجتهاد متصوراً أن الأول لم يترك للآخر شيئاً، والأسوأ حالاً منه من يتقحم ميادين الاجتهاد وهو بعد لم يستكمل مؤهلاته، وما أضر بالأمة إلا متخوف منع الاجتهاد أو فارغ تقحم لججه.

وعظمة القرآن أن طالب العلم النهم يرجع إلى عشرات المفسرين في مختلف العصور وعلى مختلف الاتجاهات حول آية ذات مساس بأي قيمة أخلاقية أو سياسية أو علمية ثم لا يجد عندهم ما يشبع نهمه ولا ما يشفي غليله ويبرئ سقم نفسه، ولربما يجد ضالته عند عالم لغة أو بلاغة أو فقه أو فلسفة ثم لا يلبث أن يتحول عنهم جميعاً. ولقد تمر بي مثل هذه الحالات فأعلِّق المسألة وأتوقف بانتظار نازلة كالقنبلة الضوئية التي تنير عتمة النص وتفجِّر دلالات جديدة غير متوقعة.

وما لا يمكن إنكاره ولا الاستخفاف به ما قطعته الجمعيات العلمية للإعجاز العلمي في القرآن من أشواط مليئة بالمحاذير في مجال الإعجاز العلمي في القرآن، وهي إنجازات غير معصومة وغير مقدسة؛ ومن ثم فهي قابلة للنقد.

وقضية الإعجاز العلمي لم تكن الهاجس الوحيد بل لم تكن الأهم في سياقات عدد من الاهتمامات. لقد خاض هذا المعترك علماء النفس والأدب والسياسة والاجتماع وفقه الأحكام، وكل طائفة تجتذب القرآن إليها وكأنهم عشاق يدعون الوصل به وحدهم، ويبقى القرآن بوصفه كلام الله يجذب بوهجه كل الباحثين، وتمر الأجيال ذاهلة محتارة مشفقة على نفسها مستقلة إمكانياتها عاتبة على تقصيرها في جنب الذكر الحكيم، والقرآن كما هو كالطود العظيم طري يلين مع كل يد، جديد يفتض مغاليقه كل جاد متمكن، ومن تصور أنه بإمكانياته ومنجزاته قد حسم الموقف فقد وهم. وكيف تفنى عجائبه وهو كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً. ومع ما في المحاولات كافة من خير عميم إلا أن مبدأ القطعيات غير ممكن، وعلى الأمة المسبوقة بظاهر الحياة الدنيا والمفرطة في جنب الله أن تحفظ التوازن بين مطالب الدارين تماشياً مع {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}، وأن تخفف من حدة الهزيمة الحضارية، وأن تجتهد في استثارة كوامن القوة عندها. وأنكر الأصوات من يُحمِّل الإسلام جريرة تخلُّف الأمة، أو من يجهض نصوصها صريحة الدلالة صحيحة الثبوت لكي توافق هواه المتبع على غير هدى. وليس شرطاً أن نسترخي على وسادة الادعاء كي تمضي قوافل الحضارة الإنسانية ونحن كما أهل الكهف نقلب أجسامنا ذات اليمين وذات الشمال وصوتنا النشز باسط رواقه علينا يهدهدنا بمعسول الكلام، فأمجاد التاريخ قد تسكن المعاناة ولكنها لا تحسم المشاكل، وإذ يكون القرآن محرضاً على التدبر في ملكوت السماوات والأرض وحاثاً على إعداد القوة بكل شموليتها العلمية والإيمانية والعسكرية فإن واجب الأمة التخلي عن حياة الدروشة والتمائم، والتعالق مع أي حضارة تمتلك قدراً من الحق بوصفه ضالة المؤمن. وإذ يكون الرد إلى الله والرسول في كل متنازع عليه واجباً شرعياً فإن الأمة بخبراتها المتراكمة وتجاربها العميقة أدرى بأمورها الدنيوية، ولم يبق في ظل الانفجارات المعرفية وثورة الاتصال إلا أن نستصحب المقاصد، وكم هو الفرق بين الرحيل إلى النص في بكارته الأولى والرحيل به لمواجهة الحياة بكل محمولاته الدلالية والاستنباطية عبر الأجيال.

ومن فوادح المخالفات أن الذين يقفون من ظاهرة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم يختلفون باختلاف الدوافع والنوايا والإمكانيات والخلفيات الثقافية والفكرية؛ فالبعض منهم ببغائيون يهرفون بما لا يعرفون، ويرددون ما فرغ منه أساطين العلمانية من تنكر ونكارة قول، وآخرون استحوذ عليهم شيطان المذاهب فاقتادوا القرآن في سراديب مذاهبهم، والتفسير العلمي له ضوابطه، ولربما يكون «فخر الدين الرازي ت 606» أول من طبق هذا المنهج بعد أن وضع «الغزالي» أسسه، والعلم الحديث والمكتشفات المذهلة أفقدت «مفاتيح الغيب» للرازي قيمته، ولكنه يظل الخطوة الأولى في الطريق المحفوف بالمخاطر، ومن بعده جاء «طنطاوي جوهري» في تفسيره المثير، ومن بعدهم تهافت العلماء والمتعالمون أمثال «حنفي أحمد» و»عبدالرزاق نوفل» وجاء مقوِّمون لهذه المناهج أمثال «أحمد عمر أبو حجر» في كتابه «التفسير العلمي في الميزان»، وستظل القضية مجال أخذ ورد إلى أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى. ولأن هذا المنهج قد فرض نفسه ولم يعد بالإمكان تجاهله أو التقليل من شأنه فإن من الخير أن يسعى الوجلون من خطورة الموقف إلى وضع ضوابط تقلل من احتمالات الضلال، فالقرآن كتاب دعوة وتشريع وهداية، والعدول به عن أهدافه مظنة تفريط بما يجب أن يكون، وفرق بين أن نستعين بالحقائق العلمية على المناطات أو نستعين بالقرآن لتأكيد الحقائق العلمية التي لم تتجاوز في كثير من الأحوال الاحتمالية، وفوق هذا فإن أطر الآية وحصر دلالتها على ظاهرة علمية فجة قد يضع المفسر في حرج حين لا تكون الظاهرة العلمية وفق المقتضى الدلالي، والشيء الأهم أنه من المستحيل تصادم الحقيقة القرآنية مع الحقيقة العلمية، كما أنه لا تعارض بين صحيح المنقول وصريح المعقول، ولكن الهداية والتوفيق بيد الله، يهدي به من يشاء.

وعلى كل الأحوال فإن الفرق بين العائل المستكبر والمفكر المستبقر كالفرق بين القاعد المسترفد والمنعم المتفضل، ومحنة المشاهد أنها بليت بفارغين لا يميزون بين التيارات الفكرية ولا يفرقون بين الثوابت والمتغيرات، وما هو مجال للاجتهاد وما لا مجال فيه إلا للتسليم والإيمان، ولما كان النص عند الأصوليين ما هو قطعي الدلالة والثبوت قالوا: لا اجتهاد مع النص. والمسلم اليوم ممتَحَن بنوازل تضيق بها الصدور، وقد تزعزع إيمان الضعفاء المقلدين الذين أسلموا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم، ولو أنهم إذ زلزلت أرض الإيمان من تحت أرجلهم عرفوا أن الإسلام دين عالمي شمولي وأن النوازل كما الأمراض يعلم علاجها من يعلم ويجهلها من يجهل، والجهل بالشيء ليس علماً بالعدم؛ فقد تجهل معلوما عند غيرك.

وتبقى قضية الإعجاز العلمي في القرآن الكريم إشكالية تتنازعها أطياف متعددة، وأحسب أن الاختلاف حولها من الاختلاف المعتبر، غير أن أسلوب العلاج والمواجهة يحدد قيمة المتجادلين أخلاقياً وعلمياً، ولا أظن أن هناك مشاحة، والوسطية هي خير المناهج في التعاطي مع كل القضايا، ولاسيما قضية تتعلق بالذكر الحكيم، وإذ قامت شبهة الانتفاع أو الانقطاع فإن ذلك لا علاقة له بالظاهرة بوصفها براء مما يمارسه المنتفعون أو الرافضون، بحيث تظل القضية فوق النوايا والمقاصد.