الجامعات هي من يصوغ الوعي في كثير من المجتمعات المتقدمة، وهي من يقود حركة التغيير الشعبية، وهي من يحرك الشارع ويؤثر على الجماهير بل هي من يعيد بلورة النظم ويحافظ أو يهز القناعات والقيم، وعضو هيئة التدريس هو من يبني فلسفة المجتمع ويحدد رؤيته المستقبلية وينمى قدراته العقلية، ويحفز الهمم للقراءة والاطلاع، ويحث المواهب للكتابة والإبداع، وذلك من خلال أبحاثه المتخصصة، ولقاءاته الحوارية المفتوحة، ومحاضراته الدراسية الحية، ونشاطاته العلمية والعملية الباعثة والمحفزة، والشرط الأساس ليكون كذلك بل أكثر من ذلك «الحرية الأكاديمية» التي تمنحه الحق المطلق في البوح بأفكاره داخل الحرم الجامعي بكل صراحة ووضوح دون النظر إلى جنسه أو لونه أو توجهاته الفكرية أو أرائه الشخصية، وبهذا فقط تصبح الجامعات منطقة حراك ثقافي دائم، ومدرسة حقيقية في تقبل كل منا للآخر، وميدان تربية لطلابنا وطالباتنا على فنون القول وحسن الاستماع بعيداً عن الوصاية الهلامية التي تحرمنا الاستفادة الفعلية من كثير من أعضاء هيئة التدريس الذين تم التعاقد معهم للعمل في هذه الجامعة أو تلك، ليس هذا فحسب بل ربما وقفت هذه الإشكالية عائقاً أمام عدد من المتميزين المعروفين في بلادهم للتدريس في جامعاتنا فرفضوا المجيء لأنهم لا يستطيعون التنفس إلا في جو من الحرية الأكاديمية التي تمنحهم الحق في التعبير عن آرائهم ومطارحتها والحوار حولها في مناخ أكاديمي مفتوح، الواجب ألا نخاف أو نبالغ في الحماية وأخذ الحيطة والحذر إلا عندما يكون المطروح مثلاً دعوة سافرة للتطرف والإرهاب أو مناداة صريحة للكفر والفساد أو إشاعة واضحة للانحلال والإفساد، فالفكرة الناضجة الواضحة المتوافقة مع العقل الصحيح والمنطق السليم هي التي ستبقى وستضمن الدوام وما عداها فإلى بوار، والجيل الحالي يختلف عمّا سبق من أجيال فهو لا يؤمن إلا بما يقتنع به قناعة ذاتية راسخة وقوية، والسبب بسيط جداً إذ أن الأفكار والمعارف كانت زمننا ومن قبل شحيحة محدودة ولا يمكن الحصول عليها إلا عن طريق واحد الأستاذ والكتاب اللذين هما مصدر الحق وعنوانه وفيهما ومنهما الخير كله، أما اليوم فهي -الأفكار- مطروحة على قارعة الطريق ويمكن الوصول إليها في ثوانٍ معدودة وبطرق مختلفة ومتعددة والشاب والفتاة في سوق الخيار، والمتحكم فيما يأخذ ويدع جودة العرض وقوة أدلته وإلحاح الطلب وذاتيته، وهو وحده -الشاب والفتاة- دون غيره من يملك القرار في الأخذ أو الرد.
إن الإعلام السعودي باتفاق استطاع أن يأخذ مساحة من الحرية جيدة، جعلته منطقة منازلة ونقاش، ولذا لجأ عدد من الأكاديميين إلى هذه الساحة الحرة لطرح ما لديهم من رؤى وأفكار هدفها الأساس -حين نحسن الظن- تحقيق المصلحة الوطنية العامة، وهناك آخرون ربما لديهم أفضل وأعمق وأقوى مما هو مطروح ولكن ليس لهم سبيل إلى الصحافة، أو أنهم يجيدون فن القول ولا يملكون مهارة كتابة الحرف، أو أن شعور البعض من المتعاقدين بالغربة الفكرية والزمنية والمكانية وتسميعهم داخل الحرم الجامعي أنهم مجرد متعاقدين ويمكن أن يلغى عقد أحدهم لأدنى سبب، وأن من الواجب عليهم احترام العادة والتقاليد، أو... كل هذه الأسباب جعلت الحياة الجامعية من الناحية الأكاديمية تتشابه في الكثير من وجوهها مع التعليم الثانوي خاصة في العلوم الإنسانية التي هي مجال خصب للمطارحة والمناقشة والسجال، بل فتحت الباب على مصراعيه ليقوم أناس غير متخصصين ولا عارفين بأبجديات البحث العلمي بإجراء دراسات ميدانية -إن صح لنا نعتها بهذه الصفة- والخروج علينا بنتائج مضللة ولا تملك المصداقية العلمية الرصينة. وأكثر من هذا وذاك صار الطالب يعيش بين تجاذبات عدة أضعفها جاذبية وأوهنها كياناً دائرة الجامعة التي هي المرشحة وبقوة أن تكون موطن التلاقح الفكري وموئل الحوار الحضاري. إن الحرية الأكاديمية التي بدأت تهب على جامعاتنا في الحقل العلمي المتخصص أنتجت لنا في جامعة الملك سعود «غزال 1»، وسجلت للعقل السعودي الواعد براءات اختراع ومواطن ابتكار هي محل إشادة وفخر وإجلال سواء من قبل القيادة أو الشعب أو حتى العالم الخارجي، فلماذا يضل الجانب الإنساني الفلسفي الأدبي الفكري مسلوباً هذه الحرية، ومن أخذها وكافح عنها ونافح فهو يتعاطها خارج الأسوار -سواء في الإعلام أو المنتديات العامة والخاصة- وعندما يكون داخل الحرم الجامعي يتوارى عن الأنظار ويبدع في الصمت وحسن الاستماع؟؟، هذه مجرد دعوة تولدت من رحم الواقع والميدان هو من يصنع الأبطال والبقاء دائماً لمن يملك الحجة ويبني ما يقول على الدليل والبرهان وإلى لقاء والسلام.