عند لقاء الأدباء.. في مؤتمرهم الثالث ب «الرياض» في مطلع عامنا الهجري الحالي.. كان هناك همس يقارب الجهر، بأن الدكتور عبدالعزيز السبيل.. وكيل وزارة الثقافة والإعلام ل «الشؤون الثقافية» آنذاك سيغادر منصبه ب «الاستقالة»،
|
وأن المسألة.. مسألة أيام أو أسابيع حتى يتم إعلان الخبر رسمياً بعد موافقة المراجع العليا، فلم يسعدني الخبر في حد ذاته.. وعلى كل مستوياته، كما لم يسعد المثقفين والأدباء والمسرحيين والسينمائيين والتشكيليين والفوتوغرافيين.. في عمومهم، الذين وجدوا في الدكتور السبيل أخاً وصديقاً وزميلاً يتقاسم معهم همومهم, ويحلم أحلامهم, ويتمنى أمانيهم وهو يتعامل معهم.. من خارج «كرسي الوظيفة» و»هيلمانها» و»سيكيرتاريتها» و»حجابها»، أما على المستوى الرسمي.. فقد كنت أشعر بطبيعة المأزق الذي سيجد نفسه فيه معالي وزير الثقافة والإعلام الجديد الدكتور عبدالعزيز خوجة.. الذي لم يكن قد مضى على تعيينه آنذاك سوى بضعة أشهر، لم تبلغ العام.. عند البحث عن خلف للدكتور السبيل.. بينما كانت تتفجر في داخلي عشرات الأسئلة.. عن أسباب هذه الاستقالة «الغامضة» وغير المتوقعة: كيف.. ولماذا.. وما الدافع لها.. والدكتور السبيل يحقق كل هذا النجاح، ويحظى بكل هذا «الرضا».. بل و»الشعبية» بين المثقفين ومنتجي الثقافة في أطيافها وألوانها المتعددة، ممن يرسمون ب «الكلمة» و»الريشة» و»الكاميرا».. ومن يعزفون ب «الوتر» و»القوس»، لكن وقتي القصير آنذاك.. لم يسمح لي بتقصي الإجابات أو العثور عليها عند مصادرها.. الموثوقة.
|
ولكنني عندما عدت ثانية إلى «الرياض» لحضور معرضها الدولي الثالث ل»الكتاب»، والمشاركة في إحدى ندواته.. وقد كانت عن السيرة الذاتية وتجربة كتابتها.. كانت الإجابات عن أسئلتي متوفرة ومتاحة.. بل ومشاعة بين معظم من رأيتهم من أدباء ومثقفي الرياض وإعلامييهم، فلم تشف لي غليلاً.. بل وتحفظت عليها لأن القرارات المصيرية في حياة إنسان لا تأخذها نيابة عنه «أسرته».. أو أنها تؤخذ - حتى من قبله - استجابة لإرضاء الأسرة والأعمام و»الخيلان»، على أنني وجدت أن معالي الدكتور خوجة.. قد استطاع أن يجد حلاً سريعاً لأزمة استخلاف الدكتور السبيل، وذلك بضم منصبه إلى منصب صنوه وزميله وصديقه وكيل الوزارة للشؤون الإعلامية الدكتور عبدالله الجاسر ب «التكليف».. وهو من لا يقل عن الدكتور السبيل خلقاً وتواضعاً وسلاسة في التعامل، وقد عرفته الأسرة الإعلامية طوال سنوات عمله معها: حماسة ووفاءً ونصرة للإعلاميين بصفة عامة والصحفيين منهم بصفة خاصة.. الذين يتعرضون بين الحين والآخر ل»الإيقاف» أو المنع أو حتى «التسريح» من العمل، إلا أن مشكلة هذا الحل السريع.. هو أن حمل «نصفي» الوزارة (الإعلام والثقافة) على كتف واحدة، سيكون ثقيلاً على كتف واحدة دون شك.. خاصة وأن نصف الثقافة الجديد - في الوزارة - أو المضاف إليها يشكو من قلة إدارته المناط بها الشأن الثقافي في عمومه.. أو انعدامها بالكلية، فهو نصف لم يزل بعضه قيد التأسيس، وبعضه قيد الحلم، وهو في كل الأحوال يفتقد إلى الكثير من تلك الإدارات أو القطاعات المتفق على وجودها كقطاعات أساسية في بناء أرضية الثقافة سواء ل»وكالة» للثقافة.. أو ل «وزارة» بحالها..!: فأين قطاع المسرح..؟ وأين قطاع السينما..؟ وأين قطاع الفنون التشكيلية..؟ وأين قطاع الفنون الشعبية..؟ وأين قطاع الموسيقى والغناء..؟ إلا أن الدكتور السبيل استطاع خلال عمر وكالته القصير.. أن يسد هذا النقص بالاتجاه نحو إنشاء جمعيات ل «المسرحيين» و»التشكيليين» و»الفوتوغرافيين».. إلخ، ك «بدلاء» مؤقتين.. قد ينمو كل منهم ليصبح قطاعاً مسؤولاً.. أو تخرج إلى الوجود تلك القطاعات لتحل محلهم.
|
على أي حال.. في ختام مشاركتي في تلك الندوة، وزيارتي للمعرض الذي آلت إدارته «العليا»، للدكتور الجاسر و«التنفيذية» للدكتور عبدالعزيز العقيل.. فأنجزاها بصورة مبهرة حقاً، كان الدكتور عبدالعزيز السبيل يضع في يدي نسخة من كتاب جديد له في المعرض.. هو: كتاب «عروبة اليوم»، وقد صدَّره ب «إهداء» ملفت ومثير تقول كلماته: «تلك رؤاي.. وأجزم أننا نشترك في جزء كبير منها. يشرفني رجع الصدى منكم».. ومع غياب توقيعه عن الإهداء.. كان حضور تاريخه للإهداء 5/3/2010م.
|
لم أتعجل قراءة الكتاب، فقد كان عنوانه المبهج والمثير يلزمني بأعلى درجات الأناة والتفحص.. فأخذت أقرأه على مهل.. بل وعلى مدى أسابيع، ودون التزام بالترتيب الذي ارتآه المؤلف لتلك المجموعة من المقالات التي تشكل في النهاية محتوى الكتاب وقضيته أو قضاياه، وقد استلفت انتباهي بداية.. ذلك «الغموض» الذي أحاط بصورة الغلاف الأول ل «الكتاب»، والتي رسمها الفنان الأستاذ عبدالرحمن السليمان.. الذي لم أكن قد رأيت له أي عمل تشكيلي من قبل, والتي تجعلك لا تدري إن كانت هي ل «مباني» شامخة أو كانت شامخة.. فانكمشت؟ أم أنها ل «مباني».. كانت جميلة بهية ساطعة فاسودت؟ وتلك المقاطع من الكلمات والجمل.. التي استلها المؤلف من جوف الكتاب ليضعها على غلافه الأخير، كقوله في واحدة منها: «إن الوطنية الحقة لا ترتبط بالموقع الرسمي، ولا يمكن الجزم أن الأنظمة الحاكمة أكثر وطنية وحرصاً على الوطن من المواطن نفسه»..!! أو كقوله في أخرى: «عندما يتفق السياسي والمثقف، فإن الخاسر الحقيقي هو المجتمع».. وهو يقصد - فيما أعتقد - الوطن..!
|
ثم أخذني الكتاب في أول إطلالته.. بحديثه عن «غربة المكان، غربة الهوية، غربة النمط المعماري، غربة السلوك الاجتماعي».. التي تهيمن «على السائر في معظم المدن العربية الحديثة منها بشكل خاص».. والتي تجعله - أو تجعلنا - نبرر ما حدث ب «إن حياة اليوم ليست كحياة الأمس»!! وهو «بيت القصيد» - كما قال المؤلف - الذي تستهدفه «العولمة»..؟!
|
فإذا كان لا اختلاف على «هويتنا» كما قال بأنها «إسلامية وعربية».. أو كما جاء في نصه الواثق الذي أسعدني: «أجزم أنه لن يختلف اثنان في تحديد هويتنا إسلامية وعربية»، إلا أنه أخذ يتساءل ممروراً حائراً: «هل انعكست هذه الهوية على كافة مسارات حياة مجتمعنا»؟
|
ليجيب عن تساؤله بصدق الحقيقة ومرارتها: ب «إن العالم الإسلامي لم يحاول أن يوجد له حضارة مستقلة، فهو يعمل منذ نصف قرن على جمع أكوام منتجات الحضارة.. أكثر من أن يهدف إلى بناء حضارته»، ليستخلص «الضرورة» من هذا الواقع المر.. بأن العالم العربي والإسلامي وحتى يستعيد «هويته» ويخرج من «غربته» المتعددة الأبعاد.. هو «بحاجة إلى توحيد جهوده، وتحويلها إلى مشروع للتعامل مع الآخر»، ف «الشجب اللغوي والرفض القولي، والغضب الآني، لن تجدي نفعاً.. رغم أن تلك هي بضاعتنا المحلية الصنع التي نجيدها»..!!
|
لقد أخذني غلاف الكتاب وما عليه.. وما فيه، والصفحات الأولى من إطلالته على هويتنا العربية الإسلامية.. إلى عالم جميل كنت أبحث عنه في نتاجنا الفكري الثقافي ولا أجده.
|
ثم أخذتني صفحات الكتاب.. أو عيناي الباحثة عن بقية الحلقات في «عروبة اليوم».. إلى «صباح التاسع من إبريل من عام 2003م، يوم سقوط بغداد» الذي «أصاب الكثيرين بالذهول والدهشة والاستغراب» كما قال الدكتور السبيل، وهو يتفحص ما وراء ذلك «السقوط».. ليجد ضالته فيما كشف عنه الكاتب الأيرلندي الأمريكي الشهير: «روبرت فيسك» صاحب كتاب «ويلات وطن» عن فلسطين والفلسطينيين.. بعد ذلك بأيام عندما قال: «إن القصة الحقيقية لسيادة أمريكا على العالم العربي.. بدأت الآن»؟ ثم لينتهي إلى القول ب «إن التغيير في المنطقة وفي الأوطان قادم، إن لم يكن من الداخل فسوف يكون بقوة أو مؤامرة من الخارج»، وهذه هي أزمة العرب والعروبة.. المعاش بعضها والمتوقع بعضها الآخر، التي جعلت الدكتور السبيل.. يلتفت بعد ذلك التفاتة واعية هامة.. إلى جذور الإشكالية العربية عندما قال ب»إن الشرعية الحقيقية لأي نظام تنبع من اقترابه الشديد من هموم الأرض والإنسان، وتمثله لمصالح الوطن الحقيقية»، ليعرج في ذات اللحظة وبشجاعة تحسب لقلمه وفكره.. إلى الحديث عن «الوطنية» ومحدداتها والتي لا يمكن الجزم معها ب «إن الأنظمة الحاكمة أكثر وطنية وحرصاً على الوطن من المواطن نفسه».. وكما سبقت الإشارة إلى ذلك في بداية سطور هذا المقال.
|
ثم جاء حديثه (مقاله) الأروع والأشجع عن «الجزيرة العربية والوحدة الثقافية».. ربما ليذكرنا أولاً وقبل الآخرين ب «إن معظم كتب الرحالة والمستشرقين، وعلماء الآثار يفضلون استخدام مصطلح الجزيرة العربية، نظراً لدلالته الجغرافية والتاريخية. ولأنه مصطلح يضرب في أعماق التاريخ عبر قرون عديدة»، وأن الظروف السياسية التي مرت بها المنطقة.. فتحولت معها «جزيرة العرب إلى عدد من الكيانات السياسية تمثلت في سبع دول، حمل كل منها اسماً خاصاً به. ومن الملاحظ أن لفظة (العربية)، وهي اللفظة التي تجعل الجزيرة ذات دلالة تاريخية وجغرافية مميزة.. قد اختفت من أسماء خمس من هذه الكيانات السياسية الحديثة، وبقيت في اثنتين منها فقط، وهما المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة». ومع استبعاده ل «اليمن» من هذه الدول الخمس - فيما بعد - باعتباره «اسم خلده التاريخ عبر عشرات القرون»، وقد «تعدى حدود الدلالة الجغرافية المعينة إلى دلالة أكبر في الثقافة العربية تتمثل في الاتجاه الجنوبي. فكل جنوب غداً يمناً، وأحد أركان الكعبة المشرفة حمل اسم الركن اليماني لدلالة الاتجاه الجغرافي»، ليخلص بعد ذلك إلى الدفع بأمنيته الغالية المرجوة.. عندما قال: «ولعل انضمام اليمن إلى مجلس التعاون لدول الخليج العربية سيقود إلى وحدة أكثر تماسكاً، وأجزم عند ذلك أن مصطلح (الخليج) سوف يختفي ليحل مكانه (الجزيرة العربية)، وبذلك نعود إلى الدلالة الجغرافية الأقدم، والتاريخية الأعرق، والتعبيرية الأدق».
|
وفي ختام الكتاب.. وفي آخر مقالاته، كان طبيعياً أن يزرف دموعه على رحيل شاعر العروبة.. في»رحيل نزار»، وهو يقول: «إن رحل نزار فرداً فقد بقي جيلاً»، و»إن اختفى نزار فرؤاه العربية الوطنية تتردد على كثير من الألسنة»، وإن قسا «كثيراً على العروبة، لا لذاتها ولكن لبعض الناطقين باسمها، ولذلك فكثيراً ما يقدم اعتذاراته:
|
وإذا قسوت على العروبة مرة |
فقد تضيق بكحلها الأهداب» |
لقد كتبت «عظيما».. وأعدت نشره «شجاعاً» في هذا الكتاب، ليتمكن من قراءته مَن لم يقرأه في الصحف، ومَن لم يستمع إليه وأنت تلقي ببعضه من فوق منصات المشاركات وفي قاعات الندوات.. فكنت الابن البار ل»عروبتك» التي أنبتتك، ول»لغتها» التي ثقفتك، ول»تاريخها» الضارب في أعماق أعماق الزمن.. الذي جعلك تقف على قدميك شاهراً قلمك، ليقول.. ما لم يقل به إلا القلة من أمثالك وسط غابة العولمة الأمريكية المحيطة بنا.
|
اعتذار: أستأذن القراء الكرام في التوقف عن الكتابة طيلة أشهر الصيف. على أمل باللقاء بعده إن شاء الله.
|
|
|