أغلق الأب باب حجرته الصغيرة، وذهب يتفكر فيمن يجلسون خارجه من أبنائه وزوجه وبعض أقاربه، وأصواتهم تصله وقد بحَّ صوته قبلا، وهو يحاول الوصول إلى بعض قناعاتهم في أمور هي محور جدلهم، وفي الأخير حين كُسرت عصا صوته بين أصواتهم، انسحب لكن أحدا منهم لم يكن يشعر بتلك الخيبة الكبيرة التي عششت فجأة في صدره، على الرغم من أن خيوطها كانت قد أرخت في تربته منذ أن طرأت الكثير من الأفكار, وتشعبت في رؤوسهم، فما كان مسلما به ضمن أبجديات القيم العامة، بدأت تنقضُّ أبنيته، في كل وسيلة تصدم عيونهم، وآذانهم بدعوى التطور، والحقوق الفردية والنوعية، ومواكبة الآخر في جحره، وإن كانت العقارب تنام فيه, تنتظر فريستها وإن نالت منها أصابعها فقط، إلا أن السم بإمكان خاصيته أن تتسرب وتنتشر في أي جسد عن طريق َسَمِّ خَيَاط الإصبع..
الأصوات لا تزال تعج طنينا في أذنيه تملأهما بغبار الخطأ ونثار الصواب، والخليط لا يجد من يفصل بينه لأن حماس الشباب، وخصائص أعمارهم لا تدع لأحد هادئ ذي بصيرة أن ينهر في غير إقناع، أو يرفض في غير إيضاح، لكن نماذج البرامج الحوارية التي يقتدونها تملأ الشاشات صراخا، وتطال جذور آداب الحوار والمجادلة بمعاولها، فالوجوه الأخرى لأرباب الرأي تكشفها المواجهات، وتنم عنها أساليب المخالفات والاختلاف، فكيف يقوى أب مثله, واحاد بين اثني عشر صوتا، أن ينفذ مالم يكن كل منهم يتحلى بهدوئه الذي مسخه سوط وصوت ما تتناقله الوسائل الإعلامية، وما يتشدق به مدعو التطوير الناظرين لأنفسهم، أنهم المتصدون لحرية الرأي وإثبات الذات، وكأن هذه الأخيرة لا تتحقق في غير صراخ، وفي غير جدل لا يقوم على معرفة وعلم، وفي غير توقير لصاحب الخبرة، وإن كان أبا ليس لهم أن ينهروا رأيه تأدبا,أو ينبثوا بأفٍّ في وجهه طاعةً..؟ غير أن ما تعلموه ولم يعرفوا مغبته، هو أن من حقهم أن يمارسوا حياتهم، ويقولوا آراءهم كيفما تقدمه لهم أطباق الواقع على صفيح من جمر.., لهم لذته الظاهرة وما وراؤها سموم تسري فيهم...
***
وخلف الباب تدفق بئر من الدموع والتهبت غابة من الخيبات..
***
لا أترك الحديقة من خلفي، ولا آسى على الطريق، لكنني أتفكر في حمولة العربة التي ستأتي...