الفقيه الزاهد العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله، رزقه الله الرسوخ في العلم، ودقة الاستنباط، والجمع بين الأدلة، مع ورع وصدق، فكان بحق (فقيه العصر). وحيث إن كثيراً من الناس صاروا يتحدثون عن مسألة إرضاع الكبير، فبعضهم يمنعها لكون الرضاع له وقت كما في قوله تعالى: ?وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ?، والكبير تجاوز الوقت المحدد للرضاع، وأجابوا بأن حديث سالم في صحيح مسلم منسوخ، أو أنه خاص بسالم، وقال آخرون إنه يجوز إرضاع الكبير عملاً بحديث سالم إذا احتيج إلى ذلك، ثم اضطربوا في تحديد من هو المحتاج، وأصبحوا في أمر مريج.
هذه المسألة المهمة، تحدث فيها العلامة الشيخ ابن عثيمين، فجمع بين الأدلة، فكان على كلامه نور، فوافق النقل والعقل وهما لا يتعارضان إطلاقاً.
قال - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ} ما نصه: ظاهر قوله: (أرضعنكم) يعني في وقت الرضاع، أما قصة سالم مولى أبي حذيفة، فالجواب عنها، بأحد ثلاثة أوجه، فإما أنها منسوخة، أو خاصة به عيناً، أو خاصة به نوعاً.
أما القول بأنها منسوخة، فهذا ليس بشيء، لأن الأصل عدم النسخ، ولابد من إثبات التاريخ، وتعذر الجمع.
وأما القول بأنها خاصة به عيناً، فضعيف أيضاً، لأن الله عزَّ وجلِّ لا يمكن أن يخص أحداً بحكم إلا لمعنى فيه، حتى النبي - عليه الصلاة والسلام - ما خص به من الأحكام إلا لأنه نبي، لا لأنه محمد بن عبدالله، فلا بد من علة يتغير بها الحكم، ويخصص به من اتصف بها، فما هو المعنى الذي يخص به سالم حتى نقول: إن الحكم لا يتعداه، وأنه خاص به؟ لأننا إذا قلنا: إن الحكم لا يتعداه، وأنه خاص به، صار معناه: أنه حكم له بذلك، لأنه سالم مولى أبي حذيفة، وهذا لا معنى له، وعلى هذا فيضعف هذا القول أيضاً.
بقي الوجه الثالث: وهو أنه خاص به نوعاً، فإذا وجد حال مثل حال سالم ثبت الحكم، وهذا لا يمكن أن يكون الآن، لأن ابن التبني قد بطل شرعاً، وعلى هذا فلا يرد علينا أبداً، ما دمنا قررنا أنه لا أحد يخصص عيناً بحكم من شريعة الله، ولا بد أن يكون هناك معنى يتعدى إلى نوعه، وهذا لا يمكن.
لكن شيخ الإسلام - رحمه الله - له في هذه المسألة قولان:
القول الأول: يوافق ما قلت: من أنه لابد من مراعاة التبني.
والقول الثاني: يعتبر الحاجة، وأنه متى ما احتيج إلى إرضاع الكبير، رضع، ويثبت حكم الرضاع، ولكن قوله هذا ضعيف، كقول الذين يرون رضاع الكبير، وقد قلنا: إن هذا القول ضعيف، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والدخول على النساء! فقالوا: يا رسول الله: أرأيت الحمو؟ - والحمو أخو الزوج أو عمه أو خاله وما أشبه ذلك - قال: «الحمو الموت» رواه البخاري.
ومعلوم أن الحمو يحتاج إلى الدخول إلى بيت أخيه، ولاسيما إذا كانوا في بيت واحد، فلو كان إرضاع الكبير مؤثراً لقال: الحمو: ترضعه زوجة قريبه، ليزول الحرج، فلما لم يقل ذلك، علم أن مطلق الحاجة لا يؤثر في ثبوت حكم الرضاع في الكبير، وأنه لابد أن تكون حاجة خاصة نمشي فيها على كل ما حصل في قضية سالم مولى أبي حذيفة.
وإذا اعتبرنا ذلك صارت هذه الحالة الآن غير موجودة، وبهذا تسلم الأدلة من التعارض، ويحصل الجمع بينها.. انتهى كلام الشيخ ابن عثيمين، وهو كما ترون كلام متين، وفقه عميق، رحمه الله رحمة واسعة.
* حائل