سلام على الدنيا سلامُ مودع |
وارحل فقد نوديت بالترحال |
الموت يفرق من نحب اجتماعه، ومن نأنس بوجوده وحضوره، ولكنها الدنيا لا يدوم لها سرور، تنقضي أيام ساكنيها ما بين أفراح وأتراح، وحلاوة ومرارة حتى يؤذن لأصحابها بالرحيل الأبدي إلى الدار الآخرة، فمنذ فترة من الزمن أي في 10-5-1415هـ انتقل إلى جوار ربه الرجل العصامي عبدالله بن ابراهيم بن سعيدان بعد أن قضى شطراً من عمره مكافحا في طلب المعيشة والكسب الحلال، محاولا سد حاجاته وإبعاد شبح الفقر عنه وعن أسرته، واستمر يكد ويكدح ليلاً ونهاراً في طلب الرزق مرورا بالعمل الوظيفي كمراسل بأول مدرسة ابتدائية افتتحت بحريملاء عام 1369هـ مع العمل خارج الدوام، وفي الإجازات بأعمال حرفية في تشييد المباني بالطين والحجارة، وطلاء الغرف داخل البيوت بالجص والأسمنت، وقد اشتهر - رحمه الله - بالإخلاص وإتقان العمل والصدق في تعامله مع الغير، فما كان من أبناء عمه وفي طليعتهم الشيخ حمد بن محمد بن سعيدان إلا أن كتب لي رسالة خطية - ما زلت محتفظاً بها - تتضمن طلب السماح له بأن يتوجه لهم بالرياض لمدة وجيزة - مع تأمين من يقوم بعمله في تلك الفترة القصيرة وقت طفرة البيع والشراء للأراضي في شمال الرياض لأجل أن يعمل ترسيما وتحديدا بالبلوك والأسمنت لتلك المخططات الواسعة العقارية التي تخص شركتهم مع الشيخين الكريمين محمد بن ناصر الجماز، وعبدالله بن ابراهيم الراشد - رحمه الله - المسماة « مؤسسة بدر العقارية « التي تعتبر من كبريات المؤسسات العقارية، فأعطوه أو أشركوه بدل أعماله وأتعابه قطعا كبيرة جدا من تلك الأراضي البعيدة عن وسط المدينة بمسافات شاسعة رخيصة الثمن، فكانوا سببا سريعا ومباركا في ثرائه، حيث تحسنت أسعارها في مدة قصيرة، فأصبح في مصاف الأثرياء عقاريا، فأبناء عمه وشريكاهما كلهم خير وبركة، ولله در قول الشاعر حيث يقول:
|
مابين غمضة عين وانتباهتها |
يغير الله من حال إلى حال |
وكان - رحمه الله - كلما يقابلني يقبل ما بين عيني بالقوة قائلاً: أنت سبب تجارتي، فأرد عليه: هذا من فضل الله عليك ثم من أسباب صدقك وإخلاصك في أداء أعمالك .. وكان محبوبا ومعرضا عن مساوئ الناس لا يتدخل في شؤون أحد منهم، ورغم أنه لم يأخذ قسطا من العلوم بالدراسة الليلية، فتعليمه محدود جدا إلا أنه سريع البديهة، ويحسن الرد السريع المسكت، يقال إن شخصاً قال له في جمع من الحضور بعدما تحسنت حاله المادية مستكثراً نعمة الله عليه: نسيت يا « عبيد « أيام كنت تشتغل بالطين، وبالأعمال الحرفية فقال على الفور: ما نسيت، ولا نسيتك وأنت تطوف « بمخرفك « أي الزنبيل على بعض الفلاحين في مواسم جذاذ النخيل علهم يمنحوك شيئا من التمر يسد رمقك وجوعك، وكأنه يردد قول الأستاذ الشاعر علي الجندي:
|
وكن بلبلا تحلو الحياة بسجعه |
ولا تك مثل البوم ينعب بالردى |
فخجل ذاك الرجل، وعجب من سرعة بديهته ورده اللاذع الحار، ويقال إن أبا إبراهيم - رحمه الله - بعدما أفاء الله عليه بالخير العميم أخذ يمنح قطعا كثيرة من الأراضي في أحد الأرياف المتاخمة لمدينة الرياض بعض الأسر المحتاجة والمساكين، وذوي الحاجات، ابتغاء مرضاة الله المنعم عليه بفضله وكرمه، ورجاء المثوبة يوم الحساب، وكان - يرحمه الله - حسن السيرة والأخلاق أثناء عمله معنا ومع زملائه بالمدرسة، وكان من لطفه أثناء التعقيب على بعض التلاميذ في مزارعهم، وفي بيوتهم لإحضارهم إلى المدرسة أنه يردفهم ويحملهم على الدراجة « السيكل « الذي فرح بتأميننا له ليختصر المسافات بين المدرسة وبعض المزارع النائية فلم تلبث تلك الفرحة طويلاً حيث إن أحد المعلمين المكنى بأبي طارق - رحمه الله - استعاره منه ليذهب به في مشوار قصير فقضى عليه تماما أثناء سيره بأرض رمليه لثقل جسمه، وعدم إتقانه القيادة !، فتأثر عبدالله لذلك كثيراً قائلاً: وما آفة إعارة الأشياء إلا خرابها، ولم يعد صالحاً للاستعمال حيث لا يوجد ورش لإصلاحه في تلك الحقبة الزمنية، وهذا جزء من الذكريات معه ومع (أبو طارق) - رحمهما الله -، ومن الأشياء اللطيفة التي تدل على حسن تصرفه أنه أثناء قيام بعض المعلمين برحلة في غابات شعيب حريملاء في ليلة من أبرد ليالي الشتاء، فما كان منه عندما فكر في النوم ولم يكن معه فراش ولا بطانيات يلتحف بها إلا أن عمد إلى مشب النار فأطفأ الجمر بالماء، وبقي مكانه دافئا، ثم أحضر قطعا من أكياس الخيش فوضعها مكان المشب ثم نام نوما هانئا ملتحفا بما تيسر له من لحاف، فتصرفه هذا وقاه من شدة البرد القارس، فالذكريات الجميلة مع (أبو ابراهيم) لا تنسى أبد الليالي - رحمه الله - فالداعي لكتابة هذه الأسطر عن سيرته وعن أعماله الخيرية أن إحدى بناته الأستاذة جواهر (أم يزيد) ترغب في إعداد كتاب عن سيرة والدها الراحل، فهي تعلم أنه قد عمل معنا بالمدرسة وبمعهد المعلمين بحريملاء، وتود مشاركتنا لها في ذلك مع ذكر طرف من ذكرياته معنا، فهذه العجالة تعد ضربا من الوفاء معه - جعله الله من الآمنين يوم القيامة -.
|
فاكس 015260538 |
|