إن السياسة البريطانية تشبه الرياضة العنيفة عادة، وكثيراً ما تغلب على مناقشاتها البرلمانية الملاكمات والنزعات الشخصية. ولقد وصِفَت وسائل الإعلام البريطانية بالوحشية (وهو الوصف الذي استخدمه توني بلير وغيره من الساسة البريطانيين). والواقع أن الأسئلة التي يوجهها الصحافيون إلى الساسة كثيراً ما تكون شديدة العدائية أو مهينة إلى الحد الذي يجعل المرء ليتساءل لماذا لا يغادر الأشخاص الذين يتلقون مثل هذه الأسئلة مكان إجراء المقابلة في سخط وغضب أو كيف لا يصعقون من فرط الشعور بالمذلة والمهانة!.
ولكن لا شيء كان طبيعياً في بريطانيا في الآونة الأخيرة. فهناك على سبيل البداية الحكومة الائتلافية الجديدة والتي تشكل حالة نادرة لم نر مثلها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ثم هناك ردود الأفعال تجاه الحكومة الجديدة، التي كانت تتسم بقدر عجيب من الاعتدال خاصة وأن رئيس الوزراء الجديد ديفيد كاميرون لم يكن حاملاً معه لأية أنباء طيبة.
كان اقتراح كاميرون الأساسي هو أن بريطانيا في حالة «أزمة»، وأن اجتياز هذه الأزمة سوف يتطلب الثبات والصبر. وفي خطاب عظيم حَذَّر من «الآلام» التي سوف يشعر بها الجميع في كل مكان، حيث سيصبح خفض الإنفاق مطلوباً بشدة من أجل تقليص حجم العجز المالي الهائل الذي تعاني منه بريطانيا.
عادة، تثير مثل هذه التصريحات صيحات الفزع، والغضب الحقيقي أو المصطنع. وبالطبع لم يمر الأمر من دون اعتراضات وانتقادات. ولكن باستثناء الاحتجاج المرير من جانب وزراء حزب العمل السابق على تحميلهم اللائمة عن الحالة التي بلغها الاقتصاد، فإن الاستجابات كانت مهذبة ورصينة بصورة ملحوظة. ما الذي حدث يا تُرى؟
ربما كان التحالف بين المحافظين والليبراليين الحزبين الأشد تباعداً في وجهات النظر أربك الجميع وحطم قناعاتهم. وهذا في حد ذاته قد لا يكون أمراً سيئاً، ولكن حالة «غياب الحرب»، كما أطلق عليها الكاتب المسرحي ديفيد هير ذات يوم، تشير إلى أن الصفائح التكتونية التي تقوم عليها السياسة البريطانية قد تحركت بعنف.
فعلى سبيل المثال، كشف التحالف الجديد عن اتجاه مستتر في الحياة السياسية البريطانية، وهو الاتجاه الذي ظل متعايشاً على نحو يكاد يكون ماكراً مع اللغة الخطابية الانفعالية الساخنة: ذلك النوع من التقارب بين الأحزاب الرئيسة نحو نوع من التوليفة الوسطية فيما يتصل بأغلب القضايا الكبرى.
وعلى الطرف الآخر من الطيف الاقتصادي، فإن الممارسات المصرفية سوف تخضع لتنظيم أفضل كما نتمنى وذلك في أعقاب فترة مطولة من انعدام المسؤولية المالية إلى حد مذهل. ولكن من الواضح أن التأميم، أو اقتصاد الدولة الموجه، ليس بالأمر الوارد.
ورغم كل المنغصات التي ربما تنتظرنا، فإن بريطانيا ليست على وشك الدخول إلى عصر جديد من التقشف الشديد. بل إن ما يقترحه الائتلاف فيما يبدو هو عبارة عن شكل من أشكال التصحيح، أو الابتعاد عن التجاوزات العديدة وأسباب الاختلال والتوجه نحو نظام أكثر تحفظاً وانضباطاً. ويبدو أن هذه الأجندة نجحت في ملامسة وتر المشاعر الشعبية غير المعبر عنها في أغلب الأحيان الإجماع على أن شيئاً ما قد انحرف إلى حد كبير في «بريطانيا المنكسرة»، وعلى ضرورة القيام بعمل ما لعلاج ذلك الانحراف.
والآن بعد أن أصبحت المشكلة واضحة فقد يكون بوسع المرء أن يستشعر نوعاً من الاتفاق العام، بل وأيضاً قدراً من الارتياح الملموس.
وبدلاً من الجدال والتشهير بالآخرين فقد دخلت كلمات مثل «الواقعية»، و»الضرورة»، و»الحس العملي» إلى المجال العام من جديد. ويبدو أن الشعور الواسع الانتشار بالاستحقاق، والمصحوب بالتشكك التلقائي في السياسة بكل ما تشتمل عليه، ذهب لكي يحل محله الاعتراف بأن بعض المشكلات لا تخضع لتفسيرات أو حلول اليمين واليسار البسيطة؛ وأن الحكومة ليست قادرة على كل شيء وليست سيئة النوايا على الدوام؛ وأن الرخاء الذي قد تقدمه السياسة ليس بلا حدود.
ولقد تبنى زعماء أوروبيون آخرون لهجة التحذير الصارمة هذه. ولكن الائتلاف يتمتع بميزة واحدة: ألا وهي أن البريطانيين ما زالوا يعشقون الأزمات، والواقع أن إقناعهم بأنهم يمرون بأزمة كان ناجحاً إلى حد كبير في تلبية الغرض منه. فهناك تحدٍ لابد من التصدي له وهناك سبب لتوحيد الجهود.
من الصعب أن نعرف إلى متى قد يدوم هذا الشعور بالتضامن. والواقع أن السياسة تمقت التوازن بقدر ما تمقت الطبيعة الخواء؛ ومن المؤكد أن التوترات داخل الائتلاف، وخارجه، سوف تطفو على السطح. ورغم ذلك فإن المزاج البريطاني يبشر بتغيير أوسع نطاقاً في مناخ الديمقراطية الليبرالية الغربية، وينذر بقدوم عصر جديد أقل تساهلاً.
في الوقت الحالي، يبدو أن ضبط النفس البريطاني قد استعاد بعضاً من صرامته. وإننا لنتمنى أن يدوم هذا لفترة كافية حتى يتمكن المجتمع البريطاني من استعادة استقراره، وقوته التي يحتاج إليها بشِدة.
*إيفا هوفمان ألفت سبعة كتب، ومنها كتاب «فُقِد في الترجمة» وكتاب «الزمن». ولقد كتبت وألقت المحاضرات على المستوى الدولي في مجال السياسة المعاصرة والثقافة، فضلاً عن المنفى، والذاكرة، وتاريخ أوروبا الشرقية.
www.project-syndicate.org
خاص بـ (الجزيرة)