التقيت قبل سنوات بأصدقاء دراسة، بعدما تقطّعت بنا السبل، فحث أحدهم ذاك المساء البعيد على الصلة بين الأصدقاء، ثم أشار إلى أننا في زمن لا يستقيم إلا بالوساطة والتزكية في معظم شؤون الحياة، ولابد أن نستفيد من بعضنا خاصة أننا في جهات مختلفة، وحين استعرضنا مجالات عملنا، تبين للبعض بأن الأخ الناصح كان مجرّد مدرّس متوسط، فسخر أحدهم: يا عمّي إيش ممكن تنفع فيه؟ تنجّح أولادنا مثلاً أو تشفع لهم عند المدرسين؟

صمت المدرّس المصدوم لبرهة، لكنه قال هل تعرف أنك وجميع الإخوة هنا من تربية وتأسيس هذا؟! وأشار إلى رأسه، فإن صلح صلحتم، وإن فسد فسدتم، وأصبحتم إرهابيين أو مجرمين أو مرتشين. ساد الصمت قبل أن يضيف: المدرّس هو من يربّي الإنسان وليست أسرته أو والديه، وعليكم أن تردّوا الدين لنا نحن المدرسين، بعد أن جعلناكم محترمين! ثم ضحك وضحك الجميع لضحكته التي تتربص بها فواصل من الشخير.

لا أعرف كيف استعدت تلك الأمسية، حين قرأت أن 2000 معلم منعوا من التدريس خلال السنوات الخمس الماضية بسبب آرائهم المتطرفة، بينما هناك 400 معلم متعاطف مع (القاعدة) رهن الاحتجاز، وقد بدأت أفكّر كم من الطلاب الأبرياء تم تضليلهم، وكم من العناء الذي ستبذله لجنة المناصحة في محاولة إعادتهم إلى الوسطية والاعتدال!

تعالوا معي في هذه الحسبة البسيطة، فإذا كان قد أوقف هؤلاء المدرسون الأربعمائة بعد عشر سنوات من التعليم، إذا أخذنا في الاعتبار أن المدرّس يقضي ثلاثين عاماً في سلك التدريس، وإذا كان يدخل ستة فصول أسبوعياً، في كل فصل ثلاثون طالباً، أي يمرّ على مائة وثمانين طالباً سنوياً، أي ما يقارب ألفاً وثمانمائة طالب خلال السنوات العشر، بمعنى أنه سيمر من تحت عقول المدرسين الأربعمائة وأفكارهم المتطرفة خلال السنوات العشر ما يقارب 720.000 طالب، ولو افترضنا أن أثرهم سيصيب 10% فقط من الطلاب، فهذا يعني تطرّف 72.000 طالب، وتعاطفهم الكامل مع أفكار القاعدة وأفعالها.

هذا الأمر يعني أن هناك كثيراً من الإرهابيين المؤجلين، الذين تمت تغذيتهم وغسيل عقولهم الطريّة السريعة التأثر، سينفجرون ما لم تسارع وزارة التربية والتعليم إلى إعادة النظر في المعلمين والرقابة عليهم، وفتح المجال بشكل رحب للفنون والرياضة في المدارس، لأنها هي التي تمنح الإنسان الغذاء الذهني والبدني، فالفنون التشكيلية والفوتوغرافية والمسرحية والأدبية، وحتى علوم الموسيقى الواعية، يمكن أن تحقق التوازن النفسي للطلاب، ولا زلت أتذكر بعض تفاصيل حياة مشاري الذايدي وعبدالله بجاد، وقد تخلّصا من هيمنة التطرف، بعدما سافرا إلى عمّان واستمعا إلى آراء جديدة وتعرّفا على الموسيقى، وانهمك أحدهما بقراءة غابرييل غارسيا ماركيز ونجيب محفوظ، وغيرهم كثير، ومعنى ذلك أن القراءات المتنوعة والانفتاح على مختلف الرؤى يحرّر الإنسان من التشدد والتطرف.

لذلك أتمنى من وزارة التربية والتعليم أن ترسل من يتفقد حال المكتبات المدرسية، كي يشهد حالها المزري، ونوعية الكتب المتوفرة فيها، وأن تنظم الدورات الشهرية في مجالات التشكيل والخط العربي والتصوير الفوتوغرافي والتمثيل والمسرح وغيرها مما يفتح آفاق المخيلة الإبداعية على مدى واسع جداً.

علينا، إذن، أن نتحرك قبل أن يتكاثر فطر (الإرهاب) في مدارسنا!