شعرت بشيء من الإعجاب، وأنا أتابع( فعاليات الدورة الشرعية الفلكية الثانية ) - قبل أيام -، والتي تنظمها - جامعة - الإمام محمد بن سعود الإسلامية، بالتعاون مع .....
..... مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، ووزارة العدل. والذي أكد فيه، على أن: علم الفلك علم إسلامي، له أصوله وقواعده وقوانينه. ولذا فقد ذكر ابن عبد البر - رحمه الله - في التمهيد «7 - 155»، من أن تقارب منازل القمر، هو: « علم كانت العرب تعرف منه قريبا من علم العجم».
ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، أن الحساب علم بخلاف التنجيم والكهانة، وقال في مجموع الفتاوى ( 25 ) - رسالة في الهلال - : ( ومن معرفة الحساب الاستسرار والإبدار الذي هوالاجتماع والاستقبال، فالناس يعبرون عن ذلك بالأمر الظاهر من الاستسرار الهلالي في آخر الشهر، وظهوره في أوله، وكمال نوره في وسطه، والحسّاب يعبرون بالأمر الخفي من اجتماع القرصين الذي هووقت الاستسرار، ومن استقبال الشمس والقمر الذي هووقت الإبدار فإن هذا يضبط بالحساب، وأما الإهلال فلا له عندهم من جهة الحساب ضبط، لأنه لا يضبط بحساب يعرف، كما يعرف وقت الكسوف والخسوف، فإن الشمس لا تكسف في سنّة الله التي جعل لها إلا عند الاستسرار، إذا وقع القمر بينها وبين أبصار الناس على محاذاة مضبوطة، وكذلك القمر لا يخسف إلا في ليالي الإبدار على محاذاة مضبوطة، لتحول الأرض بينه وبين الشمس، فمعرفة الكسوف والخسوف لمن صح حسابه، مثل معرفة كل أحد أن ليلة الحادي والثلاثين من الشهر لابد أن يطلع الهلال، وإنما يقع الشك ليلة الثلاثين ). وقال أيضا في مجموع الفتاوى ( 24 ): ( والعلم بوقت الكسوف والخسوف وإن كان ممكنا لكن هذا المخبر المعين قد يكون عالما بذلك، وقد لا يكون. لكن إذا تواطأ خبر أهل الحساب على ذلك، فلا يكادون يخطئون ).
ولا يشك عاقل أن العلم في هذا العصر استطاع تحديد توقيت ظهور هلال رمضان وخروجه بدقة، عن طريق الحسابات الفلكية العالمية المعتمدة. وقد أخذت به بعض الدول العربية والتي اتبعت رصدا فلكيا دقيقا للهلال، إذ لا تعارض بين الرؤية الشرعية للهلال والحساب الفلكي، حيث تتكامل المعاني التعبدية مع الصور الكونية، هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإن العلم الصحيح لا يناقض النص الصريح، ولا يمكننا - بحال - أن نغفل ما وصل إليه العلم الفلكي في عصرنا الحالي لأن التشكيك في دقة الحسابات الفلكية، لا يستند إلى أي أساس علمي مقبول شرعا، ولا عقلا.
إن القراءة المتأنية في هذا الموضوع يرى أن أكثر أهل العلم في هذه البلاد أقروا الرؤية البصرية، حتى مع استخدام المراصد الفلكية، ولكنهم أنكروا استخدام الحساب الفلكي، واعتبروه غير مقبول في شرعنا. وخذ على سبيل المثال: حين رفضت هيئة كبار العلماء في السعودية اعتماد الحساب الفلكي في رؤية دخول الأشهر القمرية، واعتبرته لا يشكل أساساً مقبولاً لتحديد صيام شهر رمضان وإفطاره. وقد جاءت هذه الفتوى بعد سلسلة اجتماعات مكثفة عقدتها الهيئة، لبحث إمكانية التنسيق بين الرؤية الشرعية والمراصد الفلكية، لتحديد غرّة شهر رمضان المبارك. وبعد النقاش تم الإجماع على «اعتماد الرؤية « فقط، لدخول الأشهر. علماً أن ثلاثة أعضاء وافقوا على الحساب الفلكي، فيما أجمع بقية الأعضاء على رؤية الهلال. وأذكر أن صحيفة « المدينة « السعودية، وفي يوم الجمعة، الموافق: 22-8- 2008 م، نقلت عن رئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء، - سماحة الشيخ - عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ، قوله: « إن علماء الأمة المحمدية أنكروا على القائل بالحساب، ورأوا أنه قول شاذ لا اعتبار له «. ومثله قال - الشيخ - صالح محمد اللحيدان - رئيس مجلس القضاء الأعلى - سابقا، إن: « المعتبر، هوالرؤية الشرعية دون النظر إلي قول أهل الفلك الذي يعد حسابهم ظنيا، وليس قولا قطعيا «. وقال: « من يدعون أن الحساب قطعي الدلالة، لا يؤيدهم نص من الشارع والتحليل والتحريم. والأمور القطعية إنما تكون بالحس والرؤية، أوخبر الصادق المصدوق، وليس لديهم شيء من ذلك، إنما معهم حساب قد يزيد وقد ينقص «.
وفي المقابل نجد أن بعض علمائنا، وعلى رأسهم - فضيلة الشيخ - عبد الله بن منيع يرون جواز الأخذ بالحساب الفلكي لرؤية الهلال في حال النفي، لا الإثبات. وقد أوضح - الشيخ - عبدالله بن منيع، في كل مناسبة، أن: « المعتدلين من علماء الفلك والمحققون من علماء الشريعة يقولون باعتبار الشهادة بالرؤية، إذا كان الهلال قد غرب بعد غروب الشمس. فإذا لم ير، وعلماء الفلك يقولون بأن الشمس غربت قبل غروبه فلا عبرة بذلك، وإنما الاعتبار بالرؤية الشرعية المنفكة عما يكذبها. وخلاصة هذا القول: إن الحساب الفلكي يعتد به في حال النفي دون حال الإثبات، وبناء على هذا فقد أخضع المحققون من أهل العلم الشرعي نتائج علم الفلك لقول الله تعالى وقول رسوله الأمين - صلى الله عليه وسلم - «. وهذا القول موافق لقرار المؤتمر الثالث لمجمع البحوث الإسلامية المنعقد بالقاهرة، في جمادى الآخرة، عام « 1386 هـ «، والذي اشترك فيه ممثلون ومندوبون عن أغلب بلاد العالم الإسلامي، من أن الرؤية هي الأصل في معرفة دخول أي شهر قمري، كما يدل عليه الحديث الشريف، فالرؤية هي الأساس، لكن لا يعتمد عليها إذا تمكنت فيها التهم تمكنا قويا، ومن هذه الأسباب: مخالفة الحساب الفلكي الموثوق به الصادر ممن يوثق به. وجاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي، رقم: (23 11-3 عام (1407هـ ) يجب الاعتماد على الرؤية، ويستعان بالحساب الفلكي والمراصد مراعاة للأحاديث النبوية والحقائق العلمية، وبه أخذ مجمع فقهاء الشريعة في أمريكا، وقالوا عن الحساب الفلكي: ( يعتد به في حال النفي، ولا يعتد به في حال الإثبات ).
وقد أجاز بعض الفقهاء اعتماد الحساب الفلكي في النفي فقط دون الإثبات ؛ بمعنى: أنه إذا جاء من يشهد برؤية الهلال، ودلت الحسابات الفلكية على أن رؤية الهلال مستحيلة، أوغير ممكنة؛ فإن هذه الشهادة ترد. ومن أشهر القائلين بهذا الرأي: تقي الدين السبكي، وهومن كبار الفقهاء الشافعية في النصف الأول من القرن الثامن الهجري ؛ فقد ذكر السبكي في فتاواه: «أن الحساب إذا نفى إمكانية الرؤية البصرية ؛ فالواجب على القاضي أن يرد شهادة الشهود وقال: ( لأن الحساب قطعي والشهادة والخبر ظنيان، والظني لا يعارض القطعي، فضلا عن أن يُقَدم عليه ). وذكر أن: ( من شأن القاضي أن ينظر في شهادة الشاهد عنده في أي قضية من القضايا ؛ فإن رأى الحس، أوالعيان يكذبها ردها ولا كرامة).
وخلاصة القول في هذه المسألة: فإن من يأخذ بهذا القول من العلماء المعتبرين يؤكدون على ضرورة توافر شرطين أساسيين، تستحيل رؤية الهلال بغياب إحداهما:
أولا: أن يكون القمر قد وصل مرحلة المحاق ( الاقتران ) قبل غروب الشمس لأننا نبحث عن الهلال، وهو( أي الهلال )في مرحلة تلي المحاق، فإن لم يكن القمر قد وصل مرحلة المحاق، فلا جدوى إذن من البحث عن الهلال.
ثانيا: أن يغرب القمر بعد غروب الشمس لأن تحري الهلال يبدأ فور بداية اليوم الهجري الجديد عند غروب الشمس، فإذا كان القمر سيغيب أصلا قبل غروب الشمس، أومعها، فهذا يعنى أنه لا يوجد هلال في السماء نبحث عنه بعد الغروب.
فإذا لم يتوفر أحد الشرطين السابقين ؛ فإن إمكانية رؤية الهلال تسمى مستحيلة. وهذا المنهج هوالموافق لقرار بعض كبار العلماء في السعودية، بضرورة الأخذ بالرؤية الشرعية والحساب الفلكي في تحديد بدايات الشهور القمرية، والأخذ بعلم الفلك في حال النفي دون الإثبات، وذلك جمعاً بين النصوص الشرعية، وبين الاستفادة من علم الفلك ؛ من أجل تحقيق المقصود لرؤية الهلال.
وكلنا يذكر السجال المثير الذي حصل قبل سنوات بين فضيلة الشيخ صالح اللحيدان وفضيلة الشيخ عبدالله بن منيع، حينما ناقشا القضية عبر وسائل الإعلام، وفي الصحف المحلية، بصورة حادة وغير مسبوقة، وضح كل منهما وجهة نظره في مسألة فقهية نازلة ؛ ليتجاوزا المجاملات العلمية إلى الحوارات العلنية. وقد نشرت صحيفة الرياض، في يوم الأحد الموافق: 21 -10-2007 م، مقالا - للشيخ - عبدالله بن منيع، بعنوان: ( التسليم بعدم قبول خبر علماء الفلك يعني أن الجميع في ذمة مجلس القضاء )، رد فيه على ما جاء في حوار صحفي على لسان - الشيخ - صالح اللحيدان - رئيس مجلس القضاء الأعلى - سابقا، في السعودية، نشرته الصحيفة نفسها ثاني أيام عيد الفطر، في يوم السبت الموافق:13-10-2007م.
إن الأخذ بالحسابات الفلكية العلنية أصبح ضرورة ؛ لتحديد وقت تحري الهلال. وهذا لا يتنافى - أبدا - مع إمكانية رؤيته بالعين المجردة، أوبالمنظار. - ولاسيما - وقد أمرنا الشارع الحكيم بأن نستبرىء لديننا، ونستوثق لعبادتنا بقدر استطاعتنا. وكما أننا نعتمد على الفلك في حساب مواقيت الصلوات الخمس، فيجب أن نعتمده في إثبات الأهلة.
على أي حال فإن ما يمكن إضافته فيما تبقى من مساحة، هو: الإشادة بقرار المحكمة العليا، والتي حرصت في العام الماضي ( 1430هـ ) على أن يبدأ شهر رمضان، ويخرج برؤية حقيقية للهلال، بحيث لا تتعارض مع الحقائق العلمية الثابتة. وهذا المنهج هوالموافق لقرار الكثير من علماء الأمة، بضرورة الأخذ بالرؤية الشرعية والحساب الفلكي في تحديد بدايات الشهور القمرية، والأخذ بعلم الفلك في حال النفي دون الإثبات، وذلك جمعاً بين النصوص الشرعية، وبين الاستفادة من علم الفلك؛ من أجل تحقيق المقصود لرؤية الهلال.
drsasq@gmail.com