لقد عظمت في المسلمين رزيةٌ |
غداة نعى الناعون (فينا الغديانا) |
ما أكثر فجائع الدهور والأيام، فكل يوم نفجع برحيل غالي إلى دار الخلود، تلبية لداعي المولى - جل جلاله -، وقد يعقب ذاك حزنٌ يطول مكثه في نفوس أسرته ومحبيه، فما على المسلم إلا أن يسلم أمره إلى الله ويسترجع، ويصبر ويؤمن بقضاء الله وقدره قال الله تعالى {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}، فصفاء الحياة الدنيا لا يدوم وإن طال أمده حيناً من الزمن، فالمؤكد الذي لا مناص من حدوثه أن يعقب صفوها كدر، وهذه سنة الله في خلقه، فبينما كنت أسرح طرفي في قراءة بعض الكتب الحافلة بالحكم والأمثال، فإذا برنين الهاتف المتسارع يحمل نبأ رحيل عالم فذ إنه فضيلة الشيخ الزاهد عبدالله بن عبدالرحمن الغديان الذي كان من زملاء تلقي مبادئ العلم بحلقات المساجد بمدينة الرياض بحي دخنة لدى سماحة مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم، وأخيه فضيلة الشيخ عبداللطيف بعد صلاة الفجر، وعلى فضيلة قاضي المحكمة بالرياض الشيخ إبراهيم بن سليمان الراشد بعد مغرب كل يوم بجامع الرياض الكبير عامي 1369- 1370هـ أي قبيل افتتاح المعهد العلمي بالرياض، حيث افتتاحه في بداية عام 1371هـ، وقد أحزنني غيابه عنا وعن الدنيا حيث أبعد بعداً لا يرجى إيابه، ولقد سعدت بصحبته مبكراً بالسكن وفي أماكن تلقي العلم - مع البون الشاسع بيني وبينه في التحصيل العلمي، ولا مقارنه بيننا في اقتناص العلوم المفيدة - فهو عالم جاد ومثابر يعد من أبرز علماء الأصول والفقه، والإفتاء بالأدلة الصحيحة، فهو - يرحمه الله - علم بارز وعضو عالي القامة من هيئة كبار العلماء متمكن في علمه الغزير دقيق في إجاباته سهل عليه إيراد الدليل، وسيحدث غيابه فراغاً واسعاً في تبصير الأمة الإسلامية بدقائق المسائل الفقهية والأصولية، (فقيمة كل امرئ ما يحسنه) ولقد أجاد الشاعر وكأنه يعنيه بقوله:
|
ومن ذا الذي يُؤتى فيُسأل بعدهُ؟
|
إذا لم يكن للناس في العلم مُقنع
|
فنأمل أن يسعى تلاميذ الشيخ لملء الفراغ من بعده، فعلماء الإسلام يخلف بعضهم بعضا، ولقد عشنا سوياً في أحد البيوت والأروقة المجاورة لمسجد الشيخ محمد بن إبراهيم بمحلة دخنه بالرياض التي قد خصصها جلالة الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - لطلاب العلم المغتربين القادمين من أنحاء متعددة لطلب العلم على المشايخ في تلك الحقبة الزمنية البعيدة قبل وجود المدارس النظامية وانتشارها بنجد مع تخصيص مكافأة لأولئك، حيث كان يسكن هو والشيخ فهد بن عبدالرحمن بن حمين في غرفة بالدور العلوي مجاورين لغرفة الشيخ محمد السحيباني ونجله عبدالله، وأخيه الشيخ علي - رحمهم الله جميعاً - فكل ثلاثة أو أربعة من طلاب العلم يسكن في غرفة سويا من تلك البيوت والأروقة، وقد تحقق لجلالة الملك عبد العزيز ما أمله من نتائج طيبة حيث تخرج من ذاك المسجد الطاهر، ومن مجلس الشيخ الرحب بمنزله والمسجد معاً نخبة ممتازة من العلماء والقضاة والأئمة والخطباء، حيث إن الملك أعطى سماحة المفتي صلاحية لتعيين الكثير منهم قضاة ومرشدين في أنحاء مملكته متباعدة الأطراف، بل وبإمداد بعض بلدان الخليج بعدد من العلماء والقضاة تعاوناً منه، واحتسابا للأجر من المولى في نشر العلم والإفتاء هناك، فموضوعنا الآن لا يعطينا فرصة التوسع في الحديث عن أفضال وأعمال الملك الجليلة فهو بعيد النظر ينظر إلى أبعاد الأمور كالاستشعار عن بعد - رحمه الله -، واذكر جيداً أن فضيلة الشيخ آل غديان يقضي الساعات الطوال قراءة وحفظاً لكلام الله داخل مسجد الشيخ محمد، وأنا على مقربة منه أحاول حفظ بعض المتون عن ظهر قلب مثل: متن كتاب التوحيد كاملاً، وثلاثة الأصول، ومتن العقيدة الواسطية، وجزء من متن زاد المستقنع كلها حفظاً آنذاك.وأما الآن فقد تبخرت تلك الكنوز الثمينة أدراج رياح النسيان، ولم يبقِ منها سوى رائحتها الزكية، لأن دراستنا النظامية شغلتنا عن الاستمرار في تثبيتها في الذاكرة وحفظها، ومن جهة أخرى كان العم عبدالله بن إبراهيم الخريف من رجال الأعمال توسم في الشيخ عبدالله آل غديان ملامح الذكاء والنجابة، وحسن الخط فطلب منه الحضور ليعمل لديه داخل منزله وقت فراغه ليستفيد منه في تدوين وتسجيل أعماله التجارية، فاعتبره أحد أبناءه لأمانته وحسن تنظيمه، وضبط حساباته مؤكداً عليه تناول طعام الغداء والعشاء معه طيلة مكثه لديهم، ولم يثنه هذا العمل الوظيفي عن طموحاته بالتروي من موارد العلوم العذبة وحلو رضابها التي هي هدفه الأسمى منذ بداية تلقيه مبادئ العلم، فأذكر أنه كان يهتم برصد بعض الفوائد العلمية والمتعلقة بالفتوى فيثبتها في ذاك الدفتر أسود الغلاف مستطيل الحجم الذي يشبه السجلات التجارية الرسمية، ولعله باق لدى أنجاله بعد رحيله، ولي معه ذكريات جميلة رحبة الجوانب في مستودعات ذاكرتي فهي باقية مدى عمري، منها الرحلة الشاقة لوعورة الطريق وكثرة الكثبان الرملية عبر الصحراء مروراً بالأحساء صوب مستشفى أرامكو بالظهران بأمر من ولي العهد الأمير سعود بن عبد العزيز - رحمه الله - في عام 1370هـ وذلك لندرة المصحات بالرياض وعند وصولنا الدمام اتجه الشيخ عبد الله إلى ضيافة الأمير سعود بن جلوي، حيث إن برقية الأمر موجهة إليه، أما أنا فذهبت نحو قصر الشيخ عبدالله بن عدوان، حيث إن الأمر موجه إلى معاليه، وقد تفضل يرحمه الله فأخذني بسيارته الخاصة إلى مدير المستشفى (اسكندر) آنذاك، فاستقبل معالي الشيخ عبد الله العدوان الذي هو مدير المالية وممثل المملكة في شركة أرامكو في تلك الحقبة الزمنية وقال هذا من أبنائنا فاستوصوا به خيراً...، وظللنا هناك فترة من الزمن لتلقي العلاجات اللازمة حتى أُذن لنا بالعودة إلى الرياض، وقد صادف أثناء مجيئنا ومبيتنا قبل وصولنا عبر الأحساء إلى الدمام وجود كمية من الجراد متأثراً ببرودة الجو فاصطدنا منه كمية يسيرة، فلما وصلنا الأحساء في الصباح أخذنا نبيع على بعض الشباب كل عشر جرادات بنصف ريال أو أقل حتى صفينا تلك البضاعة التي لم نتوقع امتلاكها فاستفدنا من قيمتها بعض الشيء، وهذه من المصادفات الجميلة الطريفة، فالشيخ رحمه الله قد وظف جل وقته منذ بداية حياته للتروي من حياض أنهر العلوم الصافية مما أهله للعمل في حقل التدريس والإفتاء حتى غادر الحياة مأسوفاً عليه، وقد غص جامع الملك خالد بأم الحمام بآلاف المصلين عليه بعد عصر يوم الأربعاء 19-6-1431هـ فحمل على أعناق أبنائه وتلامذته ومحبيه حتى أضجعوه برفق في جدثه:
|
مجاور قوم لا تزاور بينهم |
ومن زارهم في دارهم زار همدا |
راجين له طيب الإقامة - تغمده الله بواسع رحمته -، وكنت أحياناً أداعبه قائلاً: أنت يا أبا عبد الرحمن ما تهتم بمظهرك الخارجي فلو حاولت أن تظهر بمظهر لامع يتناسب مع مكانتك العلمية، فيرد علي: أنا في شغل عما تشير إليه فقلت: يرحمك الله، وكأنه يقول:
|
فإن كان في لبس الفتى شرف له |
فما السيف إلا غمده والحمائل |
ولئن غاب شخص (أبو عبد الرحمن) عن نواظرنا فإن ذكره العطر سيمكث بين جوانحنا، وفي قلوب تلامذته وزملائه ومحبيه، حيث ترك علماً نافعاً يقتات منه طلاب العلم والمسترشدين على تعاقب الأجدين، ويطيب لي أن أختتم هذه العجالة بهذا البيت الذي ينطبق على أمثاله:
|
جمال ذي الأرض كانوا في حياة وهم |
بعد الممات جمال الكتب والسير |
تغمده الله بواسع رحمته، واسكنه عالي الجنان، وآلهم ذويه وأبناءه وبناته وأخيه عبدالرزاق، وعقيلاته وجميع محبيه الصبر والسلوان (إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ).
|
عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف |
|