Al Jazirah NewsPaper Wednesday  23/06/2010 G Issue 13782
الاربعاء 11 رجب 1431   العدد  13782
 
محمود السعدني الذي عرفناه
محمد بن عوض العطيفي

 

تعود علاقة الجيل العربي الحالي بالكاتب محمود السعدني إلى الثلاثينيات من القرن الماضي، وإذا استغربتم هذا التاريخ سنحكي لكم الحكاية من الأول خالص.

فالبداية كانت مع الولد الشقي الذي يلعب الكرة الشراب مع شلة غزالي التي كان يتألف منها فريق البحر الأعظم لكرة القدم وتتنافس على زجاجة كولا مع فريق الأسهم النارية، وفي كل مباراة تحصل «خناقة» لا يتم فيها شرب الزجاجة، بل يتم تكسيرها خلال الحماس، ثم يتفق على رهان جديد وموعد جديد.

أما في الإجازة الصيفية فقد كنا نسرح مع الولد الشقي في ذهابه إلى بحيرة «سبك»، وهي البحيرة التي ليس لها نظير في العالم، لأن ما بها من طين وطمي يساوي ضعف ما بها من ماء. أما البلهارسيا التي تستوطن تلك البحيرة فيبلغ، على ذمة السعدني، حجم الفيروس الواحد أربع ذبابات «لارج».

بعد عودة الولد الشقي وانتهاء إحدى الإجازات الصيفية تتغير أحواله وينتقل من شلة غزالي إلى شلة جديدة كان لها أبلغ الأثر في حياة السعدني، رحمة الله عليه، ومن هذه الشلة زكريا الحجاوي كاتب «حسن ونعيمة» الذي طاف الصعيد كله ليمثل بمسرح الهواء الطلق مستخدماً الجواميس هو والولد الشقي للوصول إلى مكان العرض. أما الشخص الثاني في هذه الشلة فهو الشاعر الساخر صلاح جاهين الذي قال عن السعدني ممتدحاً إياه إن لديه خيالاً أوسع من ذمم المرابين، ولساناً أسلط من سكين عبدو الجزار، وقلماً أحد من شفرة حلاق الجيزة «كبوريا» الذي يخرج منه الزبائن وقد تغيرت ملامحهم لأنه لم يحلق الشعر، وإنما «يسلخ الجلد».

هذا هو محمود السعدني في تلك الفترة التي بدا فيها يضع قدمه على سلم بلاط صاحبة الجلالة، فيسرح خلف «طوغان» و»رخا»، وهما من أشهر رسامي الكاريكاتير في تلك الأيام..... هذا هو محمود السعدني الذي بعد أن كان يسهر طوال الليل ليقرأ مقاله الذي يكتبه وهو متعجب أن يكون اسمه في هذه الصحيفة أو تلك، أصبحت مصر كلها والعالم العربي تتلهف على قراءة مقال السعدني الأسبوعي في مجلة روز اليوسف ثم في مجلة آخر ساعة وبعد ذلك بصحيفة السياسة الكويتية، بعنوان «على باب الله»، الذي حكمت الظروف عليه أن يحمله على متنه عندما هاجر من مصر لثمان سنوات عجاف، ختمها بالعودة إلى مصر وألف عدداً من الكتب استخرج فيها ما في «نافوخه» من زعل وزهق وغيض عن تلك الفترة التي عاشها وتعرف فيها على شخصيات عظيمة وأخرى مطحونة، كعادته.

أكثر ما يحز في النفس هو ما عاناه السعدني خارج مصر بعد أن ضاقت به السبل وعجز، لولا تدخل كرماء الأمة، عن دفع فواتير المستشفى الذي تعالج به ابنته هالة، والتي أخذ على نفسه عهداً أن يعالجها حتى ولو باع نفسه في سوق الجمعة بلندن كما يقول، ولا أعرف إن كان هناك سوق جمعة في لندن، لكن في قاموس السعدني كل شيء جائز ومقبول.

أما تجربته في 23 يوليو وما جاورها فقد كانت تاريخاً لوحده يستحق القراءة والتسجيل لأنه قصة رجل عصامي دفعته مبادئه إلى أن يتصرف بما كان يراه أنسب، ولكنه عاد إلى مصر على كل حال وقابل المحاسب في نقابة الصحفيين في مصر الذي سبق له أن قال للسعدني قبل أن يسافر خارج مصر، إنه لا يجوز فصلك من النقابة ولذلك فأنت تقبض قيمة سنوات الخدمة لأنك حمار، وأنا أسلمك مبلغ مكافأة الخدمة لأنني حمار.

أما السعدني البسيط فقد ظل يقيم داخل السعدني الصحفي «الجنتل»، والله عليه عندما ينبسط ويتحدث بالمصرية العامية البسيطة عن الشخصيات التي تحيط به والتي منها عم حجار، صاحب أشهر محل طواجن في القاهرة، والذي سأله السعدني عن نوعية المواد التي يستخدمها في صنع الطواجن، واكتشف أن بعض أنواع الفلفل الأسود الذي يضيفه عم حجار إلى تلك الطواجن، محرم استخدامه دولياً. بل إن محمود السعدني عندما تشاطر ذات يوم وعمل طاجناً للأولاد وأم أكرم، اكتشفوا أنه قد زج بزوج من الجوارب القديمة ضمن الأكلة، حسب تعليمات عم حجار الذي أوصاه أن يضيف أي شيء تقع عينه عليه في البيت إلى الطاجن، ورغم ذلك كانت أكلة الطاجن بالجوارب من أفضل ما قدمه المطبخ السعدني طعماً، ولا أعتقد أنه كان أحد في بيت أبو أكرم يستطيع أن يقول غير ذلك.أما قهوة محمد عبدالله في الجيزة فلصبي القهوة «ولعة» وصف في قاموس السعدني يكاد يكون رسماً في مخيلة القارئ وهو أن «ولعة» هذا كان يقفز كالفراشة في بداية حياته، ثم انتهى به الأمر يحجل كالغراب، من وجهة نظر السعدني، فيوصل الطلبات للزبائن ثم يعيدوه هم (الزبائن) إلى «الدكة» التي عليها العم عبدالله وإبريقه الشهير.

أما السعدني الصحفي الجاد فهو الرجل الذي لا يخشى في الحق لومة لائم، ولذلك رُبط أكثر من مرة إلى الكرسي الحديد على قطار الصعيد ليقضي فترات متعددة من الحبس في «سجن القناطر»، وتعرَّف كعادته على أصناف من السجناء من نشالين وأفاقين وأرزقية ومحترمين وصفوة من المجتمع وخرج من كل ذلك بقصص «تمام يا أفندم» وغيرها.

احترت منذ البداية كيف أرثي محمود السعدني، ذلك الرجل الذي أضحكنا ضحكاً كالبكاء، وكان جزءاً من حياتنا منذ أن كتب أول حرف حتى قال آخر نكتة.. إنه رابع الأهرامات المصرية، هذا الرجل الذي، للأسف، لم ألتقي به ولا مرة وكنت أتمنى ذلك لكن الظروف لم تُتَح رغم وجودي بالجيزة بالقرب من منزلة رحمة الله عليه..

رحم الله محمود السعدني رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته إنه سميع مجيب.. وعزاؤنا لأم أكرم ولأبنائه الإعلامي أكرم وهالة وأخواتهم، ولشقيقه الذي هو نسخة منه «أبو أحمد» الفنان الكبير «صلاح السعدني» الذين أرجو أن تتاح فرصة لقائهم لنعرف منهم من هو محمود السعدني الأب والأخ، بعد أن عرفناه «موكوساً في بلاد الفلوس» و»شقياً في المنفى» وعندما عاد «ممتطياً حماراً من الشرق».



abs456@hotmail.com

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد