لكل زمان مضى آية -كما يقول أمير الشعراء شوقي، وأزعم أن آية هذا الزمان هي (الفتاوى) التي تحاصرك في كل مكان، فحيثما وليت وجهك تجد باب الفتاوى الغرائبية أمامك مشرعاً، في الفضائيات، والصحف، وأدوات الاتصال الأخرى، كالبريد الإلكتروني، وعبر رسائل المحمول sms، ظاهرة انتشار الفتاوى باتت محيرة حقاً، حتى ظننت أنها لو وزعت على مجموع السكان لكان نصيب كل مواطن فتوى، وما كان لهذه الظاهرة أن تنتشر بهذا الشكل لولا جرأة بعض طلاب العلم واستسهالهم للفتوى، إلى جانب قلة العلم، وقلة الخوف من الله، وحب الظهور، ولم يكن ذلك ديدن العلماء الأوائل، الذين كانوا يتهيبون ولوج هذا الباب، لعلمهم (أن من أفتى بفتيا من غير تثبت، فإنما إثمه على من أفتاه)، ولقد عرض على الإمام (مالك) أربعون مسألة فأجاب على أربع منها وتوقف عن الإفتاء في البقية، وهو من هو في العلم والفضل وقربه من عهد النبوة، بل إن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يخشون الإفتاء، إذ يقول (ابن أبي ليلى) المحدث الفقيه: (أدركت 120 من الأنصار من أصحاب رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، يسأل أحدهم عن المسألة، فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول، وما منهم من أحد يحدث بحديث، أو يسأل عن شيء، إلا ودّ أن أخاه كفاه)، ترى أين هؤلاء من طلبة العلم من قليلي البضاعة من أولئك الأعلام الكبار؟ حيث يتبارى أنصاف الفقهاء، وبعض أئمة المساجد، وبعض خطباء الجمع في التحريم والتحليل، والتكفير والتفسيق دون أن يرف لهم جفن، بل إن أحدهم يقسم بالله أن ما قاله هو الصواب نفسه! أي عصر هذا الذي تنتشر فيه الفتاوى كما تنتشر أخبار المباريات؟ لقد استسهل الكثيرون هذا البحر اللجي الذي لا يركبه إلا الراسخون في (الغوص) من العلماء الثقاة، المعروفون بالتقى والورع وحسن الطوية، لا من طلاب علم قليلي البضاعة، ضعيفي الحيلة! حين كنت معلما للصبية قبل أن أطلق هذه المهنة طلاقاً بائناً، كان أحد الزملاء مغرما بنشر آخر أخبار الفتاوى التي صدرت، حيث يزف لنا صباح كل يوم آخر أخبار الفتاوى، قائلاً: اسمعوا وعوا.. أفتى البارحة الشيخ فلان بعدم جواز المسألة الفلانية، وأفتى الشيخ علان بتحريم المسألة الفلانية.. وهكذا دواليك كل صباح. وحين قلت له: يا شيخ انتبه لتلاميذك ودع نقل الفتاوى، غضب واتهمني بما ليس في! لقد انتشرت الفتاوى بطريقة عجيبة وامتهنها بعض المعلمين وأئمة المساجد وخطباء الجمع وطلاب العلم الشرعي، ونجوم القنوات الفضائية من الوعاظ. أظن أننا بحاجة ماسة إلى أن تصدر فتوى من مرجعية معتمدة (كهيئة كبار العلماء) تجرم، أو توقف (فوضى الفتاوى) التي تنهمر علينا صباح مساء، لتعيد للفتوى مكانتها، ووقارها، بدلا من تركها نهباً لكل من يدعي بأنه طالب علم، وعندها ستعود للفتاوى مصداقيتها، واحترامها، فهل أنا محق في ذلك؟!
alassery@hotmail.com