في الغربة، ينحاز الإنسان لنفسه، يتذكر أشياءه الصغيرة الحميمة، وإن كانت قلمه الذي نسيه فوق منضدته قبل أن يغادر، أو كوب قهوته بلونه الموحي له بأفكاره، أو حتى وسادته التي لا تأتيه الأفكار من غير أن تكون الكف الذي يتوسده رأسُه..
غير أن الغربة غابة، حين لا يكون المرء إلا لنفسه تلتهمه تعرجاتها وطرقها وغابائيتها الموغلة في المفاجآت، والمستجدات؛ لذا فهي رافد شاسع لخبراته، إن استوى نائيا فيها عن الإغراق في أشيائه الصغيرة الحميمة منحته الغربة مفاتيحها، وإن لم ينج بنفسه عن الإغراق فيها أغلقت عنه أبوابها فخسر خسرانا كبيرا.
هذه غربة السفر، تلك التي قال عنها الشعراء الحكماء إن لها خمس فوائد، وأوصى بها الشافعي حين وجه الإنسان للسفر حيث العوض عمن يفارق المرء، والعوض الذي يعنيه هو معطيات الغربة من كل شيء يحتك به المسافر المغترب بدءا بشربة الماء ومأوى النزول.
ولأن الصيف قد أقبلت فيها قوافل الراحلين المغتربين عن أراضيهم فإن الواحد منهم حتما سيكون إما غارقا حالما مهتبلا لما يستدر حنينه لأشيائه الصغيرة, وإما ناجيا متفكرا فيما يزيد خبراته ويلهمها مزيدا من الإثراء.
ذلك الذي سيجد العوض؛ ففي نصب الغربة لذة لا يعادلها أمر إلا نواتج التجربة.