الديرة، دخنة، سويقة، الصفاة، شارع الثميري، سوق السدرة، سوق الزل، القري، وشيقر، المقيبرة، شارع الوزير، شارع السويلم، شارع الظهيرة، معكال، الشميسي القديم والشميسي الجديد، دوار أم سليم، شارع سلام، جبرة، العجلية، شارع الغنم، الأعشى، دويرا سلام، طريق الحجاز القديم، منفوحة، البطحا، الطويلعة، البديعة، شارع الخزان، حديقة الفوطة، الناصرية، الملز.
.. هذه بعض أسماء شوارع وأحياء الرياض القديمة التي كانت تشكل المدينة الصغيرة ربما خلال أكثر من ثلاثة قرون من الزمن.
كانت الرياض لا تتجاوز هذه المسميات في الثمانينيات الهجرية من القرن الماضي، وما حولها من كل الجهات براري وصحاري واسعة ممتدة، يخرج إليها أهالي المدينة للنزهة وللفرجة وكأنهم يقصدون سفرا بعيدا! مثل خريص، وصلبوخ، وديراب، والواشلة وغيرها.
كانت الحياة في الرياض القديمة لها مذاق خاص، ولشوارعها ودكاكينها وأسواقها وبيوتها المبنية من الطين أو تلك التي لامستها يد الحداثة فبنيت من البلك وأضيئت بالنجف الأزرق نكهة خاصة وصورة في المخيلة لاترتسم ولاتنبلج إلا حين تذكر الرياض، أو تطل الرياض بمعالمها القديمة مع أول شارع يستفتحها من جهة الجنوب، وهو شارع منفوحة..!
للمدينة آنذاك بساطتها الخاصة، ولها جمال لا يمكن أن يتكشف سافرا إلا مع تباشير الصباح المشرق الهادئ؛ حيث لكل شيء فيها لون وطعم ومذاق مختلف عن القرية، ولأحاديث الناس ولكنتهم، وحروف اللغة المخففة الممطوطة قليلا على ألسنتهم وقع آخر مختلف أيضا في أذن قروي جاء من حروف كبيرة ضخمة وفخمة وتنزل على الأذن دفعة واحدة بدون تمطيط ولا إمالة!
لأول مرة يقدم فيها هذا الفتى القروي إلى المدينة في صباح يوم ربيعي زاهٍ وجميل، وما نام البارحة ولا فارقت خيالات الرياض التي يسمع بها من أقرانه ولداته ومن أسعفهم الحظ بالتمتع برؤية المدينة الحلم؛ فكان يُركب مشهدا سمعه من سعد، ومشهدا من علي، وثالثا من راشد، ويخلط تلك المشاهد ثم يعيد بناءها كيفما شاءت له مخيلته الواسعة القادرة على التفكيك والجمع، والمعتادة في مثل ساعات الليل الطويلة تحت أشعة النجوم الساهرة المراقبة على توليد عشرات الصور، وعلى خلق حيوات وقصص من كل شكل ولون.
ليل طويل لايكاد ينقضي إلا حينما لكزه أبوه في فجر ذلك اليوم ليستعد للسفر ويستطعم ما تيسر من مخبز يحيى اليماني الذي كان يبيع ثماني خبزات بريال تفوح رائحتها النفاذة طوال الطريق إلى المنزل مع أنها مندسة في كيس من البلاستيك له عروتان طويلتان يأخذه معه تحت إبطه وهو ذاهب لصلاة الفجر، وغمس الفتى على عجل نتفا من الخبز في كأس حليب «أبو قوس» ولم يكد يدفع جوعه حتى تحاشر الذاهبون إلى المدينة في بيجو أبي علي فكانوا ثمانية أو يزيدون، وبدأ والد الفتى يتلو في صوت لايكاد يسمع آيات من القرآن، وأدعية تتشارك مع انبلاج الصبح في كثير من الأمل والفأل الحسن والتيسير للأمور، وتسهيل الطريق البري الطويل الخالي من الشجر من الحياة والأحياء..
لم يلفت نظره قبل الدخول إلى المدينة إلا لوحات الدعاية الكبيرة المنصوبة على جانبي الطريق، فيقرؤها كلمة كلمة، ويتأمل صورها وألوانها ويحفظ عباراتها الموجزة الدالة بعمق على السلعة ويعجب لماذا يحرص التجار على الإشارة إلى بضائعهم على هذا النحو من التكلف؛ فمن احتاج إلى شيء سيشتريه إن كان يملك ثمنه، فكان يرى في هذه اللوحات تزيُّداً وحرصاً على الربح لا مسوغ له، إلا أنها كانت تُسلِيه وتقطع عليه الطريق الذي لا يكاد ينتهي!
وهذا مصنع الإسمنت يبعث أدخنته إلى عنان السماء فيعلم أنه على وشك الدخول إلى المدينة كما سمع من قصص سعد وعلي وراشد، فيتهيأ ويعدل من تنبهه لئلا تفوته شاردة ولا واردة مما يمر أمام عينيه من المناظر، سواء من المباني التي بدت غريبة عما ألفه في قريته من حيث الضخامة والتزيين، أو من حيث الشوارع التي بدت له وكأنه لا مثيل لها في السعة والامتداد وما يحفها من أشجار أو ما تنتهي به من إشارات ضوئية.
دخل بيجو أبوعلي من شارع منفوحة الذي كان مزدحماً بالسيارات والبشر، وسمع قرقعة أغطية قوارير البيبسي تتناثر تحت عجلات السيارة، لم يعلم لمَ يشرب أهل الرياض كل هذه الكميات الهائلة من البيبسي! تساءل في قرارة نفسه، ثم انعطفت بهم السيارة إلى اليمين متجهة إلى الديرة حيث ينزل معظم الركاب في موقف القرية المعروف، وهاله كثرة الدكاكين وامتلاؤها بالبضائع، وكثرة المتسوقين الذين لا تنقضي حوائجهم، وبدا له أن أهل الرياض أغنياء؛ بدليل ما يراه بأم عينيه من ريالات تصب في أيدي البائعين!.
للأزقة الضيقة بين البيوت الطينية العالية الارتفاع رائحة كريهة معروفة تنبعث من بقايا الطعام ونفايات المنازل التي توضع مكشوفة بجانب كل باب، فكان أبوه يضع طرف شماغه على أنفه محوقلاً إلى أن تبتعد الرائحة النفاذة، ولكن نكهة حبات القهوة المقلية بعناية وهي تدور في مكينة الطحن بغرفة أخيه إبراهيم الذي لم تكد تسعه الدنيا حين سمع طرق باب غرفته ورأى والده وأخاه بين يديه. لأول مرة يرى الفتى نور الكهرباء النجف قويا ومشعا عن قرب، ولأول مرة يرى مكينة طحن القهوة الصغيرة ويسمع حنينها الخافت الذي لا يقطعه سوى جرش حبات القهوة ودورانها السريع وتكسرها وتطايرها داخل محبسها الزجاجي، ولأول مرة يرى جهاز التلفزيون الذي كان يبث صوراً بالأبيض والأسود لم يكد يتمعن فيها حتى سارع أخوه إلى إقفاله وإسدال غطاء عليه!.
تقف «الساعة» منتصبة شامخة في وسط ميدان الصفاة، وتدور حولها السيارات بدون ملل ولا كلل، وشرطي المرور يقف بينها وسط الغادي والرائح ولا يعلم الفتى كيف يشير الشرطي بيده مرة يمينا ومرة شمالا بصفارات متتابعة لهذا الفريق أو ذاك من قائدي السيارات فيعلم كل طريقه ويفهم ماذا عليه أن يفعل، وأمام عينيه قصر الحكم ببنائه الأبيض الأنيق، ومن هذا الطريق المرتفع بجانب القصر تعبر سيارة حاكم الرياض الأمير سلمان بن عبدالعزيز إلى أن تقف مباشرة عند مدخل قصر الحكم، لقد سمع كثيرا من الحكايات والقصص المثيرة عن هذا الأمير، كانت المساءات في مجالس قريته تعمر بسرد حكايات مذهلة عن حزم الأمير وعدله وبصره العميق بالناس والقبائل، ومعرفته الدقيقة بالتاريخ والأنساب، وسعيه للتوفيق والصلح بين المتخاصمين وتأييده ودعمه لتنفيذ الحدود الشرعية، كما كان شيوخ القرية يتحدثون بإعجاب عن ذاكرة الأمير العجيبة، وكيف أنه لو رآك لمرة واحدة لا يمكن أن ينساك أو ينسى اسمك أو ما تحدثت به، وسمع كثيرا من الحكايات عن كرمه وشهامته واندفاعه لعمل الخير فانطبعت صورته المميزة التي تنشرها الصحف في ذاكرة الفتى، وتساءل وهو يمد بصره إلى مدخل القصر: يا ترى لو جاء الأمير في هذه اللحظة والساعة تقترب من الثامنة صباحا وهو وقت مجيئه إلى مكتبه كما كان يسمع هل يستطيع رؤيته؛ بل هل يمكن أن يصافحه ويخلد هذه المصافحة في تاريخه ويتحدث بها بين أقرانه ولداته من أبناء القرية حين يعود؟! لقد شعر بشيء من القشعريرة حين تخيل الموقف: كيف يمكن لشاب قروي حدث بملابسه الرثة وتواضع هندامه وصغر سنه أن يحظى بشرف مصافحة حاكم الرياض؟! لقد تخيله بشخصيته المهيبة، وبطوله الفارع، وبنظراته الذكية الفاحصة؛ فتملكه الخوف، أو غشيته ساعة من قلق واضطراب! ولكنه حدث نفسه: كيف يستطيع «سلمان» وهكذا ينطق الناس اسمه دون لقب الإحاطة بكل ما يسمع عنه من قضايا ومشكلات؟ كيف لذاكرته مهما بلغت من قوة، وفراسته مهما بلغت من حدة أن يعرف الشاردة والواردة، وألا يدع صغيرة ولا كبيرة من هموم هذه المدينة وما يتبعها من مدن وقرى أخرى إلا بحث لها عن حل وتتبعها جزءا مهما بلغت تعقيداتها حتى يصل مع أطرافها إلى حل مرض، أو يحيلها إلى الشرع ليبت فيها القضاء العادل.
ومثلما يستيقظ النائم أو يصحو الساهي تنبه الفتى من خيالاته البعيدة وأحلامه التي رآها متفائلة جدا، فمن يكون حتى يقدم نفسه للأمير؟ وهل يجد الأمير فسحة من الوقت ليستقبل شابا قرويا يافعا لا شأن له؟! ولكنه تذكر أن ساعة أو بعض ساعة - كما سمع من شيوخ قريته - تتاح لمن أراد السلام أو الشكوى، ولكن يا فتى كيف تحدث نفسك بما لا طاقة لك به؟ وما جدوى أن تعزم على الدخول إلى المقر وأنت على هذا النحو من الرثاثة وتواضع الهندام وسوء المظهر؟ ألا ترى نفسك أيها القروي الصغير؟ انظر إلى غترتك البيضاء المحببة من الأطراف كيف تنطوي على كتفيك، وانظر إلى ثوبك الأبيض الدوبلين الذي يصدر صوتا مع كل حركة كالقرطاس، وانظر إلى نعلك المغبرة، وإلى وجهك غير النضر؟! كيف يدور في مخيلتك أن تحشر نفسك مع الداخلين وأنت رث نكرة مجهول غريب؟ فلترض من الغنم بالتزود مما تفيض به هذه المدينة عليك من جديد المناظر والصور، وما تهديه إليك في كل ساعة من معارف وأخبار، وما تكتشفه من الغرائب التي لم تألها في قريتك!... يتبع.
KSA-7007@HOTMAIL.COM