أرى اللاعب الذي يقفز قفزتين ويركل ركلتين وهو يتربع على الواجهات الإعلامية ويعامله الناس معاملة الفاتحين فأهز رأسي عجبا وأقول: هذا والله زمن المضحكات المبكيات. كذلك أشاهد المغني الذي يغنج غنجتين ويطلق آهتين ثم يسيح في الميكروفون وهو ينتزع من الجماهير صرخات الانجذاب والإعجاب فأخبط جبهتي بكفي وأقول يالتفاهة المقاييس التي يستعملها المجتمع للتعبير عن الإعجاب والتقدير.
ولكن اعلموا وعوا حفظكم الله أنني لم أكن لأحسد اللاعبين والمطربين بسبب تربعهم أعلى درجات الهرم الاجتماعي في الاهتمام والنجومية، بل كنت وما أزال أحسدهم على ما يجمعونه بسهولة من أموال وما يتقلبون فيه من بحبوحة العيش وما يستطيعون تقديمه لأولادهم وأقاربهم ومعارفهم من وجاهات تنفعهم في التقديم والتأخير والقبول والتسجيل وما إلى ذلك من الأمور التي لا علاقة لها لا باللعب ولا بالطرب.
أجل كنت ولا أزال أرى الحسد في هذه الميزة بالذات مبررا ومشروعا لأنني أعرف المرتبة الاجتماعية والمالية المتدنية التي يتبوأها ذلك الصف الطويل من أساتذة الجامعات ومعلمي المدارس والأطباء والمهندسين والحرفيين.. إلى آخر الطابور من أصحاب المهن والصنائع الفكرية والإنتاجية التي لا علاقة لها بالتسلية ولا بالكماليات لكنها ببساطة هي الأصل والفصل في الضروريات التي لا تستقيم الحياة المدنية ولا تستمر بدونها.
حديثا بدأت أحسد صنفا ثالثا من المتأهلين للنجومية الجماهيرية هم وعاظ الفضاء، أو كما يسميهم الدكتور عبدالله الغذامي (الدعاة الفضائيين) لكي يميزهم نوعيا وقيميا عن الدعاة المتواضعين الواقفين على أرض الواقع غير المحلقين في فضاء الوعظ النجومي الدعائي التجاري. أحيانا أسأل نفسي مؤنبا؛ هل الحسد الذي أجده للواعظ أو الداعية الفضائي مباح شرعا رغم ما يتمتع به الداعية تقليديا من افتراض حسن النية وبراءة الأهداف؟. الآن بدأت أقول: نعم، إنه حسد مشروع ومبرر بعدما اكتشفت أنواعا من هؤلاء الوعاظ يتفيأون القصور النائفة والظلال الوارفة ويتقلبون في صنوف الحياة الباذخة وأنا الذي كنت أظنهم من قبل زهادا مساكين يتحملون شظف العيش في سبيل الدعوة إلى الله، وأحسبهم من أحفاد الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري رضي الله عنه.
أبادر هنا وأؤكد أنه لا دوافع شخصية عندي للحسد لأنني بحمدالله وتوفيقه قد حصلت بالكدح والمثابرة على ما أحتاجه من الاكتفاء والاستغناء عن الناس. لكنني مع ذلك لم أستطع التجرد نهائيا لأنني أعرف أطباء قاربوا سن التقاعد وواحدهم لا يملك منزلا ومهندسين معماريين يرون أطفالهم يكبرون في شقق بالإيجار وأساتذة جامعيين يستعير بعضهم المشلح لحضور الحفلات والمؤتمرات لأنه لا يستطيع اقتطاع ثمنه من راتبه الشهري.
تريدونني بعد ذلك كله ألا أحسد ذلك الذي يتقلب في النعيم الدنيوي لأنه ركل ركلتين أو أطلق آهتين للامتاع والمؤانسة الجماهيرية، أو ذلك الذي ينصح الناس ويزهدهم في متاع الحياة الدنيا ممتطيا الفضاء، ثم ينقلب إلى نعيمه الدنيوي ويتفرج على نفسه في القنوات الفضائية؟.