من إرثنا الفلسفي.. الدمج بين الخرافة والغائية،كان للعرب قبيل الإسلام لغة ناضجة ولكن معارفهم وفنونهم كانت وصفية، تنحصر في التناول السطحي للظواهر، وتفتقر للتأمل ما وراءها، وعندما تخرج عن المباشر تقع في فخ الخرافة، ومن ثم لم تتراكم معارفهم لتكوّن تفكيراً فلسفيا.
فالبيئة الطبيعية لم تتح لغالبية مجتمعات الجزيرة العربية مجالاً لثبات الاستقرار المدني ولا استمرار الوحدة السياسية. وحتى في الحواضر القليلة، فإنها لم تتعرف على الفلسفة، لأنها كانت جزراً صغيرة مستقرة في بحر مجتمعات الترحال، وكانت ثقافتها السائدة من ثقافة تلك المجتمعات المحيطة. وعدا عن الحكم المتناثرة في الأمثال والعبارات والخطب والشعر والقصص فإن العقل السائد آنئذ كان يتحكم به التصور الخرافي للكون والحياة، إضافة لممارسة السحر والكهانة والعرافة والتنجيم.
ويبدو أن العرب تأثروا بفلسفة مذهب الدهرية الفارسي الذي يجعل الزمان هو المبدأ الأسمى، فهو بلا نهاية وعين القدر (دي بور). فالعقلية الرعوية العربية تتقبل عدم القدرة على السيطرة على الواقع وعبث المحاولة في تفسير تناقضاته، وكما يُلاحظ فالأشعار والحكم العربية تزخر بذكر الدهر وتحكُّمه بالحياة والناس، لذا نجد تنويعاً بمسميات الدهر: الزمان، الأيام، الليالي.. ويمتد هذا التأثير إلى أيامنا الحاضرة في الشعر العامي.
ومع الإسلام تشكلت الوحدة السياسية للعرب، وتمددت الدولة خارج حدود الجزيرة العربية واختلط المسلمون العرب بحضارات وأفكار متنوعة وجديدة، لا يكفي معها مجرد النقل من القرآن الكريم والسنة الشريفة، فكان لا بد من الرأي المستند على القياس والتأويل والاجتهاد، وتقعيد ذلك. ومن هنا ظهر الفقه والفرق من أهل الرأي وعلم الكلام والجدل العقلي.
وكانت تلك ممهدات لدخول الفلسفة للفكر الإسلامي والعقل العربي. فالآراء الفقهية اضطرت للدخول في المنطق وفلسفة اللغة لتفسير وتأويل وشرح النص المقدس، ثم دخلت في تفرعات فلسفية أخرى. إلا أن ما حدَّ من زخم النمو الفلسفي هو أن القياس في التشريع وُضِع في مرتبة تلي الإجماع. وإجماع غالبية العلماء على مسألة يعني تعطيل القياس والبقية من الجدل العقلي والرأي الفقهي، ومن ثم عرقلة النمو الفلسفي.
ورغم ذلك فإن احتدام الجدل الفقهي والسياسي في العراق وما صاحبه من استقرار وترف الحياة المعيشية أدى إلى ازدهار الثقافة العقلية، كما نمت عمليات الترجمة بشكل هائل، واعتنى بها بعض الخلفاء. وكان أهم مصادر الترجمة من الفلسفة الهندية والفارسية واليونانية، ولكن التأثير الأكبر كان للأخيرة.
ونالت الثقافة والعلم عناية مميزة في زمن الرشيد وبلغت ذروتها في عهد المأمون. وإذا استثنينا فائدة الفلاسفة على نطاق فردي (كمستشار سياسي محنك أو كعالم طب معالج)، فإن الفلسفة والفلاسفة لا يبدوان مهمين للدولة، قدر ما هي لتباهي الخلفاء بين الصفوة بحضور الفلاسفة وكتبهم للترف الفكري والمتعة العقلية والشرف العلمي. أضف لذلك أن الفلسفة وقتئذ غرقت في نظريات الكلام أو الجدل الميتافيزيقي، فيما العلم الطبيعي كان شرفياً لا تطبيقاً عملياً.
إلا أننا لا نعدم تأثير الفلسفة الكبير في غير العلوم الطبيعية (الفقه، الكلام، النحو، التاريخ، الأدب). فمثلا الخطابة لأرسطو، والمنطق اليوناني عموماً أثرا بالنحو العربي والبلاغة بشكل واضح (دي بور). وقد كان التأثر العربي إيجابياً متفاعلا، فقد أضاف العرب عليها إضافات ضخمة أصيلة ومبتكرة، ومن ثم أسسوا منها علومهم الخاصة، مثل فلسفة أساس اللغة بين الفطري والوضعي، والقياس والاستنباط في علم اللغة، وفلسفة البلاغة بين المبنى والمعنى، وتقسيم أنواع الجمل أو أقسام الكلمة (اسم، فعل، حرف). ومن فروع اللغة ظهر علم العروض للفراهيدي، وعده بعضهم علماً طبيعياً ومن أقسام الفلسفة، لأن الوزن الإيقاعي أمر طبيعي مشترك بين البشر؛ فهو حالة جوهرية، وليس حالة اجتماعية خاصة بشعب معين.
وتطورت الحالة الفلسفية آنذاك من علم الكلام ونقولات وتراجم الفلسفة اليونانية الفيزيقية خاصة الفثاغورية، ولم تكتف بالمنطق بل امتدت إلى الميتافيزيقا وفلسفة أرسطو، مع بعض الابتكارات الفلسفية، حيث مهد لها الكندي (ت 260هـ) وبلغت أوجها مع الفارابي (ت 339هـ)، ثم ابن سينا (ت 428 هـ).
إلا أن تأثير الفلاسفة ارتبط بوجودهم، إذ تزول فلسفتهم بزوالهم، فيصعب القول: إنهم أسسوا لنظرية معرفية ناهيك عن مدرسة فلسفية. أما تلامذتهم فإنهم تحولوا عن الهم الفلسفي؛ فتلامذة الكندي تركوا الفلسفة إلى فروع الرياضيات والعلوم الطبيعية، في حين تحولت مدرسة الفارابي بعد وفاته إلى فلسفة لفظية وتلاعب في ألفاظ وجدل حول المعاني والمهارة في استعراض آراء الفلاسفة من غير نظام يؤلف بينها، وغالباً ما تنتهي إلى الصوفية أو الدمج بين العقل والوحي في محاولة مشوهة للتوفيق بينهما.
ورغم ظهور اتجاهات فلسفية في تلك الحقبة، فإن الفلسفة كانت غائية، فلم تكن في خدمة البحث بل في خدمة حجة دينية، غالباً ما تكون رداءً لحركة سياسية. بل حتى في الطبيعيات، سادت الفلسفات التي تفسر الظواهر الطبيعية على أساس قانون غائي، أكثر مما هو على أساس طبيعي عقلي (علة ومعلول).
يمكنني فرز صفتين مستمرتين طوال هذا التاريخ المتشعب، هما: الخرافة والغائية. فالخطاب الفكري كان وصفياً مباشراً وعندما يخرج عن الظاهر السطحي يقع في فخ الخرافة أو الميتافيزيقا.. والثاني أن أغلب الإرث الفلسفي في العقل العربي لم ينتج اختياراً حراً بل كان غائياً لدعم فكرة مسبقة. مما يعني إنتاج عقل تبريري أكثر منه تأسيسياً، حيث يُلاحظ أن لهذه الفلسفة قدرة على التحليل، ولكن من النادر أن نلاحظ قدرتها على التركيب والتأليف (الاختراع والابتكار)؛ بمعنى أنه لديها قدرة على تفكيك الجزئيات وفرزها وتقسيمها وإدراكها (مثل علم النحو)، لكن لا يتم ربطها ببعضها في تركيبة متماسكة أو نظرية معرفية تجمعها.
ومن هاتين الصفتين، هل يمكن القول: إن نسيج التفكير العربي الحالي يشابه القديم، بامتلاكه خطاباً متماسكاً لغة، لكنه يستند على الخرافة فيما وراء الخطاب.والخرافة تفسير مريح (وأحيانا ضروري) للعقل البشري للخروج من مأزق الحيرة عندما لا يفهم تناقض الظواهر أمامه، مثلما يلجأ المثقف العربي اليوم إلى التفسير عبر نظرية المؤامرة، ويريح عقله الحائر. وأفضل حاضن لنظرية المؤامرة ولتبجيل الذات وللعقلية التبريرية اللانقدية هي الفلسفة الغائية..
alhebib@yahoo.com