لفت نظري إعلان نُشر على صفحة كاملة هنا في الجزيرة، جاء فيه: (استيراد القمح بدلاً من زراعته يوفر لنا خمسة (بلايين) متر مكعب من المياه الجوفية غير المتجددة سنوياً وهو ما يُعادل ضعف استهلاكنا البلدي من المياه).
هذه الأرقام (المُرعبة) والمنشورة في الإعلان جاءت من جهة رسمية تشرف على المياه وتجري من الدراسات ما يجعل مثل هذه الأرقام تحمل (صدقيّة) لا ترقى إليها أية أرقام أخرى؛ وبالتالي، فإن كل من يُدافع اليوم عن زراعة القمح أمام هذه الحقائق فهو يسعى إلى وضع الأجيال القادمة في (ورطة) مستقبلية لا تضاهيها ورطة؛ فندرة المياه ستكون أهم التحديات التي ستواجهنا في القرن الحالي الذي نعيش الآن في عقده الأول.
والقمح ليس وحده السبب في استنزاف ثرواتنا المائية الجوفية غير المتجددة . إنتاج (الألبان) ومشتقاتها، وكذلك تسمين وتربية الأغنام، وما يتطلبه هذان القطاعان من أعلاف، يكلفنا - أيضاً - من المياه ما لا يمكن تبريره، يقول أهل الخبرة: إن إنتاج الألبان محلياً، وما تتطلبه الأبقار من أعلاف تزرع محلياً، ورَيْ هذه الأعلاف، يعني في المحصلة النهائية أننا نستنزف ما يوازي خمسمائة لتر ماء مقابل كل لتر واحد من الألبان؛ أي أننا نهدر من الماء لإنتاج الألبان كماً هائلاً نحن في غاية الحاجة إليه الآن ومستقبلاً، فلماذا لا نستورد الأعلاف من الخارج بدل إنتاجها محلياً، ونمنع (تصدير) الألبان إلى الخارج، ونبقي الماء لاستخداماتنا البلدية؛ سيما ونحن نعيش في بيئة تفتقر إلى الأمطار الموسمية، والواجب أن نتعامل مع هذه البيئة بشروطها، لا بآمال وطموحات ومشاريع سيكون لها (حتماً) آثار وخيمة على مستقبلنا ومستقبل أبنائنا وأحفادنا. ولعلّ من المفارقات المثيرة للسخرية أننا نصدر الألبان، أي في النتيجة (المياه)، إلى دول تمتلئ أراضيها بالأنهار، و الأمطار الموسمية، من صحرائنا الجافة التي تحتاج إلى كل قطرة ماء!
أعرف أن هناك متضررين من محاصرة زراعة الأعلاف، وكذلك الحد من التوسع في إنتاج الألبان، ومنع تصديرها إلى الخارج؛ غير أن الأمر لا يقبل المجاملة، ولا يحتمل التسامح، ولا بد من التصحيح والإصلاح. فبإمكاننا - مثلاً - أن نستفيد من خبرة بعض منشآتنا في زراعة الأعلاف، من خلال الاستثمار في دول الجوار، ممن تتوافر فيها المعطيات البيئية القادرة على تلبية الشروط الموضوعية لمثل هذه الاستثمارات، بحيث تنتقل إليها زراعة الأعلاف التي تحتاجها مشاريع الألبان في المملكة.
هناك تجربة رائدة قام بها أحد المستثمرين السعوديين لزراعة الأرز في إثيوبيا، والهدف تلبية جزء من احتياجات المملكة من الأرز، وحققت - كما تقول المؤشرات - نتائج واعدة من حيث النوع وكذلك الإنتاجية الاقتصادية. هذه التجربة ستغنينا من الاعتماد (شبه الكلي) على دول وسط آسيا في استيراد الأرز، بخلق منطقة إنتاج موازية، ذات بيئة مناسبة خارج آسيا، وأقرب جغرافياً بالنسبة للمملكة؛ مثل هذا المشروع سيصب بلا شك في مصلحة أمننا الغذائي من خلال استثمار التكامل الاقتصادي مع دول الجوار بما يحقق احتياجاتنا الغذائية على المستوى الاستراتيجي. هذه التجربة بالإمكان الاستفادة منها في مساندة قطاع إنتاج الألبان أيضاً، حيث يمكن توظيف الخبرة السعودية لإنتاج أعلاف مزارع الأبقار هناك، متى ما توفرت الضمانات وأهمها الاستقرار السياسي والاقتصادي في تلك البلدان.
المهم يجب أن يكون لدينا عقلية خلاقة للبحث عن خيارات أخرى، تُمكننا من تصحيح مساراتنا الاستثمارية التنموية، وأن نملك من الجرأة لأن نقول: أخطأنا ولا بد من التصحيح.
إلى اللقاء.