في اجتماع في الهيئة العامة للاستثمار, دُعيتُ له مع مجموعة من ذوي العقول النيرة والخبرة الحصيفة، وهو واحد من سلسلة اجتماعات تدعو لها الهيئة، في سبيل تطوير إستراتيجيتها للمرحلة القادمة. وهي بذلك تستشف ما يجول بخاطر كثير من المفكرين وذوي الخبرة من الإداريين والاقتصاديين ورجال الأعمال حول المستقبل والواقع، وكيف تكون آلية الانتقال بينهما، وما يجب على الهيئة أن تضطلع به من مهام حتى تكون في قلب محرك ذلك التحول. كان السؤال الأول والذي طُلب من الجميع التروي والتفكير قبل الإجابة عليه هو «ما استشرافكم لمستقبل المملكة؟»، وهذا يعني بعد عشر سنوات، أو خمس عشرة سنة، أو عشرين، المهم أن تستشرف ذلك المستقبل، وتعبر عنه بحديث لا يتجاوز خمس دقائق. وتبارى الجميع في إظهار قدراتهم التحليلية والخيالية، وكان حصيلة ذلك ثروة من الفكر الاستقرائي الذي لا شك أن الهيئة تقدر قيمته وفائدته. وعندما وصلني الدور كان السؤال لا يزال يثير في ذهني أسئلة أخرى بحيث لم أستطع أن أجاري كثيراً من الحضور في تطلعاتهم، ورأيت أن أبدأ حديثي بتغيير صيغة السؤال ليكون «ما هو حلمي المستقبلي للمملكة؟»، لهذا السؤال لدي حديث يطول ويفيض لأكثر من خمس دقائق، وهو ما فعلته حتى قيل لي، يكفيك أحلاماً!
لماذا لم أستطع أن استشرف المستقبل لبلدي؟، بات هذا السؤال يتردد في ذهني بعد أن غادرت ذلك الاجتماع، وأصبح يتكرر في ذهني بشكل يومي، ويولد تساؤلات أخرى. فاستشراف المستقبل يكون بتوقع الحال المستقبلة، بناء على فهم العوامل المؤثرة في عملية التغير والتغيير، وعندما لا يتوفر للمستشرف المعرفة بتلك العوامل المؤثرة، ونمطية تأثيرها أو آلية تأثيرها، يتعذر عليه توقع التغيير ومقداره واتجاهه. هذا ببساطة هو حالي مع استشراف المستقبل بالنسبة للمملكة.
العوامل المؤثرة في تكوين المستقبل لنا كمجتمع وكدولة متعددة ومختلفة التأثير والاتجاه، ولكن يمكن أن نجملها تحت عناوين كبيرة، هي عوامل جيوسياسية، وعوامل بيئية مناخية، وعوامل اقتصادية، وعوامل اجتماعية، وعوامل فكرية دينية وثقافية، هذه العوامل يجب أن تتضافر وتتحد في التأثير في اتجاه واحد يقود للتطور والتنمية. ولكن واقع هذه العوامل لدينا ليس كذلك، فكثير منها في اتجاهات متضادة، وكثير منها سلبي التأثير. والإمعان في هذا الواقع يقود لشعور بأننا نسير على غير وجهة تجاه المستقبل، وأننا تلقائيون، نترك الظروف والعوامل ترمينا كيف تشاء، كما لو كنا مركباً في بحر متلاطم. ولكي نغير هذا الواقع لابد أن يكون لدينا وجهة محددة لمستقبلنا، وهو أن يكون لدينا حلم. وهذا الحلم قد يكون حلم رجل واحد، لديه المسئولية والسلطة، ويختزل أحلام الناس تجاه مستقبل بلادهم برؤياه التي عليه أن يصوغها، لتعبر عن الطموح وتستجيب للآمال وتوظف العوامل في اتجاه واحد.
في كل التوجيهات التي أصدرها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -حفظه الله- خلال السنوات الخمس من بداية توليه الأمر الآجل، كان هناك تعبير عن رؤيا، وهي رؤيا ضمنية لم تصغ بصورة تعبيرية جلية بحيث تتسق معها كل الجهود وتطمح لتحقيقها الهمم. فمعظم الأجهزة الحكومية وشبه الحكومية والخاصة، كل يسير وفق سياسة خاصة به، وقليل منها يسير وفق إستراتيجية تعتمد رؤيا وطنية. فالتعليم برمته كأداة تكوين فكري للمجتمع، لا يسير وفق هدف محدد ينسجم مع التطلعات لتكوين مجتمع معرفي، ناهيك عن إحجام في أجهزة التنمية الاجتماعية بما فيها وزارة الشئون الاجتماعية عن طرق مسائل اجتماعية تركيبية تمثل محاذير لابد من التعرض لها لخلق تجانس تكويني للمجتمع السعودي، واقتصادنا على ما تيسر له من عوامل القوة، لا يوظف بصورة تعظم معها المكاسب الوطنية السياسية والاجتماعية. والحديث حول القصور في جميع العوامل المؤثرة في تكوين مستقبلنا يطول ويشجن.
إن رؤيا خادم الحرمين الشريفين، لا بد أن يؤسس لها جهاز متخصص، يتولى صياغتها بصورة تعبيرية، ويقوم ذلك الجهاز بتفصيل تلك الرؤيا وشرحها والعمل على تمكين الأجهزة الحكومية من إدراكها، وصياغة إستراتيجيات لأدوارها ومهامها ونشاطاتها تنسجم مع تلك الرؤيا وتعمل على تحقيقها. وعلى هذا الجهاز أن ينشر رؤية خادم الحرمين بين الناس حتى تجيّش خلفها مشاعر الوحدة والولاء واستشعار المسئولية تجاه مستقبل الوطن ووحدته ورخائه.
عندما يتحقق ذلك سيستطيع شخص مثلي أن يستشرف مستقبل وطنه، ليس ذلك فقط بل وسيشعر بمسئولية تحقيق ذلك الاستشراف.
M900m@gmail.com