أشكر ابن العائلة الودود زهير على تحفيزي بفكرة هذه المقالة عبر رسالة هاتفية قصيرة. يسألني زهير لماذا يجعلون مثلا في بريطانيا تحذيرا بارزا للسائق ينبهه على مراقبته بالرادار؟ ولماذا يفرض القانون هناك على سلطات المرور إظهار نقاط المراقبة باللون الفسفوري العاكس، بينما تطبق سلطات المرور عندنا طريقة نصب الفخاخ والكمائن واصطياد السائق بالجرم المرصود دون تحذير مسبق مرئي وواضح يردعه عن ارتكاب المخالفة قبل ارتكابها؟ الابن زهير يعتقد أن الهدف هناك هو الوقاية والحد من وقوع ما يعرض الأمن على الطرق للخطر قبل وقوعه، أما هنا فلربما كان الهدف هو تأديب مرتكب المخالفة بعد اصطياده بالجرم المرصود بالصورة والتوقيت، إضافة إلى جباية الأموال اللازمة لتغطية تكاليف الكمائن والفخاخ والمصائد، وبهذا يتم تكويم جميع التكاليف المعنوية والمالية على ظهر المواطن، أما المرور والمقاول المنفذ للمصائد الإلكترونية فيفركان أياديهم جذلا وحبورا.
السؤال باختصار: هل نحن أمام مجتمع ترغيب هناك ومجتمع ترهيب هنا؟.. سوف أوافق على أن هذا الاستنتاج هو الاحتمال الذي يتردد كثيرا على ألسنة الناس عندنا، مع أن هذه الفرضية تغفل أهم الأسباب لاختلاف طريقة التعامل، الذي هو اختلاف المحتوى التمدُّني للبشر هنا وهناك، أي اختلاف العقليات، أي اختلاف درجات القبول بشروط التعايش المدني وفق متطلبات العقد الاجتماعي للحياة المدنية. نحن هنا في هذه المملكة الصحراوية الجافة حديثو عهد بالحياة المدنية، وطباعنا لا تزال جافة وجافية مثل صحرائنا، والدليل على ذلك هو أن كلمات مثل لو سمحت ومن فضلك وشكرا تثير الضحك والسخرية عند السامعين أكثر مما تؤدي إلى الارتياح.
إذن هناك احتمال آخر يرى أن ما يحصل من الإيقاع بالمخالفين على حين غرة ودون تحذير مسبق، وما يترتب على ذلك من شفط مبالغ طائلة من جيوبهم، هما مجرد نتائج ثانوية غير مقصودة للطريقة الوحيدة التي يمكن بها التعامل الفعّال مع نوعية السائق الهائج على الشوارع السعودية. ولأن طريقة التعامل مع المخالف تفرضها عادة نوعية المخالف ومدى خطورته ومعرفة أفضل الطرق لإقناعه بضرورة الانتظام في العقد الاجتماعي، وكذلك استعمال أنجع الوسائل لردعه عن الغلط والعدوانية عندما تكون عقليته بدائية ومتحجرة وفي رأسه بذور تمرد قديمة تحتاج إلى طحن.
سوف تلاحظون أن هذا الكلام حتى الآن مرسل على سبيل التعميم، لكنه في الحقيقة مشروط ومقيد بظروف النقلة الحضارية من المستوى الصحراوي الفوضوي إلى المستوى المدني المنظم، والنقلة تحتاج إلى عقلاء وسراة قوم وقدوات مقنعة ومقتنعة بالضرورة الحضارية المدنية.
أما فيما يخص فكرة المقال فنحن في الشارع السعودي أمام ثلاثة أنواع من السائقين:
النوع الأول: السائق المهذب الذي يحترم نفسه والآخرين، وهذا النوع سوف يكون أكبر المستفيدين من تطبيق نظام ساهر؛ لأنه بالأساس ملتزم بقواعد المرور الحضارية قبل مراقبة وترهيب ساهر.
النوع الثاني: السائق المواطن المستهتر، وهذا غالبا يمثل الشاب الذي يستمتع أثناء قيامه بفروسياته السخيفة في الخرق المتعمد لقواعد المرور ومضايقة الآخرين وبث الرعب في الشارع العام ثم ينطلق منتشيا بما قام به من تفاهات. هذا النوع لا ينفع معه التحذير المسبق بل يجب اصطياده كما تصطاد الجرذان في كمائن المرور، وحبذا لو أمكن سحب رخصته ومصادرة سيارته. مثل هذا السائق لم يستطع أهله تقويمه ويتوجب عليهم للضرورة الاجتماعية التنازل للسلطات للقيام بتأديبه قبل أن يقتل نفسه ويقتل الآخرين.
النوع الثالث: السائق الوافد الذي يتعمد ارتكاب المخالفات نكاية بالكفيل والبلد وأهل البلد. إنَّ وجود هذا النوع من السائقين بالأساس لا لزوم له، بل ويترتب عليه من المخالفات الأخلاقية ما تسهل أمامه المخالفات المرورية، ولكن ما العمل إذا كان استقدام هذه العناصر المفسدة يستند إلى فقه كان المرتجى منه درء المفاسد قبل جلب المصالح فأدى إلى ما هو حاصل منه من الفساد والإفساد. هذه مشكلة لن يحلها نظام ساهر ولا فقه سد الذرائع بل تحتاج إلى قرار سيادي يقطع الشر من دابره. الحل معروف وهو أن تخدم المرأة نفسها بنفسها في حدود التشريع الإسلامي الذي يحكم البلاد بحذافيرها على امتداد الزمان والمكان. بناء على ما سبق أعتقد أن نظام ساهر سوف ينجح جزئيا فقط، وأن له علينا الدعاء الطيب والانتظار وإعطاءه الفرصة الزمنية الكافية، لكن لنا عليه ثلاثة مطالب: أن نعرف أين سوف تذهب الفلوس، وأن نتأكد من عدم تدخل (الواسطات) المعتادة في تطبيقه العادل، وأخيرا أن ننتقل من مجتمع الترهيب إلى مجتمع الترغيب في أقرب فرصة.