Al Jazirah NewsPaper Monday  14/06/2010 G Issue 13773
الأثنين 02 رجب 1431   العدد  13773
 

ابن غديان العالم العَلَم
محمد بن صالح بن سليمان الخزيم

 

إن عمر الإنسان مرحلة تبدأ أول أميالها بولادته ثم تبدأ صفحات عمره بالانحسار لذا جعل ابن الجوزي العمر أحد مراحل السفر الأخروي:

نفرح بالأيام نقطعها

وما مضى يدني من الأجل

وهذه سنّة متبعة يسير عليها البشر وإشغال هذا العمر بمزيد فضل وعلم يضفي على المرء عمراً ثانياً به يذكر ويشكر، بل ويعلو اسمه ويبجل.

فكم من إنسان تحت التراب ذِكْره فوق ذكر ممن هم فوق التراب، لأنه اقتنص ساعات عمره بما أحيا ذكره وهؤلاء طبقة منّ الله عليهم بنور العلم وجميل الفضل.

وأكثر هؤلاء لمعاناً وذكراً ودعاءه حباً، العلماء الربانيين ممن أعطاهم الله من نوره فأضاؤوا به طريق الحياة لكثير من الناس، إنه مبدأ غال لا تناله إلا النفوس الشريفة، قيل: (والعلم أغلى ما يباع ويوهب) والعلماء هم ورثة الأنبياء.

ومن حين لآخر يطرق الأسماع ويهز القلوب رحيل علماء القلوب ورثة الأنبياء أئمة الهدى وبموت الواحد منهم يموت خلق كثير.

ومن آخر عقد العلماء الربانيين شيخنا عبدالله الغديان العالم الأصولي، والفقيه الفهامة، صاحب الباع الطويل بالبحث والتحقيق، عضو هيئة كبار العلماء وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء، صاحب المحاضرات الجامعية، والندوات الإيمانية ذوالصوت المألوف في فتاوى المذياع، وعبر القلم السيّال، ف{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.

شرفت بتعليمه لنا خلال دراستنا في السنة التمهيدية بكلية الشريعة عام 1403هـ فكان منهلاً عذباً نرتوي من علمه فقهاً وأصولاً وقواعد فقهية.

يموت قوم فيُحيي العلم ذكرهم

والجهل يُلحق أمواتاً بأموات

كم من مسألة قررها، وقاعدة قعدها، وضابط صوّره لنا، يُنزل الأحكام على القواعد تعليماً للطالب، فيعرف الطالب به الشارد والوارد، وقد قيل: (الحكم على الشيء فرع عن تصوره).

وما زالت معلوماته التي بثها لنا باقية تنير الطريق، وتقرب البعيد، وهكذا يُنال العلم. قيل: (من كان شيخه كتابه كان خطؤه أكثر من صوابه).

ومن جمّ أدبه وحرصه على أبنائه الطلبة استماعه لأسئلتهم خارج القاعة منصتاً ومجيباً عن كل مسألة من غير ضجر ولا ملل بل مع انشراح صدر.

تعلمنا عليه عاماً كاملاً لم يتغيب عن محاضراته ولم يتأخر عن بداياتها فتعلمنا منه العلم واكتسبنا حسن السمت وضبط العمل.

إنها رسالة للتربويين من أساتذة جامعة ومربين أن يكونوا قدوة لطلابهم فالمرء يدعو بقوله وفعله، ويقبُح بنا أن نأمر أو ننهى ونعمل بضده، قال مالك: (كنانعمل أعمالاً فلما كنا هكذا لا ينبغي أن نعملها) أو نحوه، فغالباً التلميذ يهتدي بسمت معلمه ويهتدي بهديه بل ربما تقمص شخصيته.

قال أبو بكر بن المطوعي: (اختلفت إلى أحمد اثنتي عشرة سنة وهو يقرأ المسند على أولاده فلم أكتب حديثاً وإنما ألحظ هديه وأخلاقه)، وقال عبدالله بن وهب: (ما تعلمنا من أدب مالك أكثر مما انتفعنا بعلمه) فالدعوة بالفعل ربما كانت أبلغ من القول.

وكان رحمه الله متواضعاً لطلابه ومحباً للخير ولربما شجع الطلاب على الاطلاع والبحث لتحقيق مسألة وتحريرها لينمي لدى الطالب القدرة البحثية فمتى غاص الطالب في بحر العلم توصل إلى المكنون وتقوت لديه القدرة العلمية.

وكان صاحب فنون متعددة لا تقتصر على فن واحد كما هو حال أهل زماننا بل كان موسوعة ذات علوم مختلفة وفنون رائدة لذا بفقده نكون قد فقدنا موسوعة أحوج ما نكون إليها في وقت فاه كلٌ بغرائب ما عنده وطار بها كل طائر.

إنه أصولي زمانه وفقيه أخدانه مع دماثة في أخلاقه وحسن آدابه، وفي هذا رسالة أخرى لرواد التربية والتعليم للاهتداء بحسن السمت ورفيع الأدب لا رموز فخرية ولا نظرات للآخرين دونية.

قال ابن أبي حازم: (كانوا إذا لقي من هو فوقه في العلم كان يوم غنيمة وإذا لقي من هو مثله ذاكره وإذا لقي من هو دونه لم يزه عليه حتى كان هذا الزمان).

فتدبر هذه المقولة ولا تكن الشبر الأول من أشبار ثلاثة فتنزلق قبل أن تبدأ!

ويحسن بنا أن نذكر إحدى الطرائف التي نقلها لنا وهي فائدة نافعة، كان أحد الدعاة يرغب ارتجال الكلام ولكن الحاجز النفسي يمنعه من ذلك، قال -أي الداعية-: فرأيت أن أخرج إلى الصحراء وأدرب نفسي على الحديث بوضع حجارة أمامي وأتحدث إليها كأنها أشخاص وأكرر ذلك أياماً حتى رأيت سلاسة في الكلام وتوارد الأفكار فبدأت أتحدث في المساجد البعيدة عن البلد لقلة الحضور ولما رأيت أنني قد تمكنت بدأت أتحدث بالمساجد ذات العدد المتوسط وهكذا حتى أصبح الآن من كبار الدعاة في البلاد. إنه درس عملي لمن أراد أن يكسر الحاجز النفسي ليقف متحدثاً وداعية، ولا غرابة في ذلك لأن التحدث أمام الآخرين له رهبته. قال الخليفة عبدالملك بن مروان: (شيبتني صعود المنابر واللحن).

وها هو يرتحل -رحمه الله- بعد عمر مديد بث فيه علماً عظيماً زانه بإنارة الطريق لثلة من التلاميذ، ساروا على دربه وفق سمته ينقلوا علمه ويذكّرون بفضله، وبموته يبقى عمره الثاني علم وفضل يستفاد منه ويرتع في رياضه يذكر بالجميل ويدعى له في كل حين.

جمال الأرض كانوا في الحياة وهم

بعد الممات جمال الكتب والسير

وحق علينا الدعاء له إنه حق لا يدركه إلا أهل الفضل لأنه نوّر القلوب وشحذ الأذهان وبدّع في الأفكار فكان ترحمنا عليه واجب، قال الإمام أبو محمد رزق بن عبدالوهاب (ت448هـ): (يقبح بكم أن تستفيدوا منا ثم تذكرونا ولا تترحموا علينا) فرحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته، آمين.

مدير المعهد العلمي بالبكيرية

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد