Al Jazirah NewsPaper Monday  14/06/2010 G Issue 13773
الأثنين 02 رجب 1431   العدد  13773
 

الضرب بالميّت حرام
د. عبد الله الصالح العثيمين

 

من الأمثال الدارجة ذات المدلول العميق لدى سكان وسط الجزيرة العربية هذا المثل الذي جعل عنواناً لهذه المقالة، وقد يفهم من يسمعه أو يقرؤه أن المراد بكلمة حرام الواردة فيه حرمة ضرب الميّت من الناحية الشرعية. وهذه الحرمة مسلّم بها بطبيعة الحال. على أن المراد بالمثل حقيقة أبعد من ذلك الفهم القريب للمعنى.

فهو عند الكثيرين يعني أنه لا فائدة من محاولة بعث الروح لمن هو ميّت معنوياً. وهو -بهذا المعنى- يقرب من مثل دارج آخر يقول: «ما ينفع الطق بالحديد البارد». وهناك أمثلة دارجة أخرى تحاكي معانيها معنى هذين المثلين.

ولم يغفل الشاعر العربي الكبير، أبو الطيّب المتنبي، عن ذلك المعنى.

فمما قاله:

من يهن يسهل الهوان عليه

ما لجرحٍ بميّت إيلام

أما بعد:

فإن مما دفعني إلى كتابة هذه المقالة الموقف الأخير لأمتنا العربية، عاربة ومستعربة، قيادات وشعوباً، تجاه ما ارتكبه الصهاينة من جريمة بشعة ضد أسطول الحرية. هذا الموقف الذي من أوضح وجوهه الدالة على إدمان كؤوس الذل والمهانة القرار برفع الأمر إلى مجلس الأمن. وكل من بقيت لديه بقية من ذاكرة ما زال يذكر كلام الأمين العام لجامعة الدول العربية القائل بعبارة واضحة جليلة: إن مجلس الأمن تسيّره أمريكا، وإن أمريكا لا تخرج عن رأي إسرائيل أو إرادتها.

لقد كان العرب طليعة حملة الرسالة المحمدية.. رسالة الإسلام الخالدة.

وكان ما أنجزته تلك الطليعة مما خلّد ذكرها ومجدها في صفحات التاريخ. على أن بقاء الحال من الحال. لذلك لم يبق العرب هم الطليعة في حمل تلك الرسالة العظيمة بمعنى بقائهم قادة للأمة المسلمة يحملون لواء الإسلام ويذبون عن حياض المسلمين. وقد أكون مبالغاً إذا قلت: إن آخر نخوة لدى عربي بصفته قائداً لأمة -ولا أتحدث عن فلتات إقليمية أو قبلية هنا أو هناك- كانت تلك التي خلّدت اسم الخليفة المعتصم، والتي أشار إليها الشاعر عمر أبو ريشة، وهو يتحدث عن عرب زمننا وزعمائهم قائلاً:

أمّتي هل لك بين الأمم

منبر للسيف أو للقلم؟

أتلقّاك وطرفي مطرق

خجلاً من أمسك المنصرم

كيف أغضيت على الذل ولم

تنفضي عنك غبار التهم

أو ما كنت إذا البغي اعتدى

موجةً من لهبٍ أو من دم؟

فيم أقدمت؟ وأحجمت؟ ولم

يشتف الثأر ولم تنتقمي

رب وا معتصماه انطلقت

ملء أفواه البنات اليُتّم

لامست أسماعهم لكنها

لم تلامس نخوة المعتصم

كان استنجاد امرأة مسلمة في أطراف الدولة الإسلامية بقائد تلك الدولة باعثاً لإثارة النخوة لديه، وإسراعه في نجدتها والثأر لها. وكان العرب ما زالوا طليعة قادة الأمة. ودارت الأيام دورتها، ودوام الحال من المحال، كما ذكر سابقاً.

وبعد أن احتل فلسطين الفرنجة -أو كما تسميهم الصليبيين المصادر الأوروبية ومن تبنّوا هذه التسمية من غيرهم- لم يتولّ قيادة الأمة لتطهير القدس من أولئك ومن احتلوها عربي من العرب العاربة أو المستعربة، بل تولاّها كردي نوّر الله بصيرته بالإسلام، وألهمه الصواب قائداً للأمة المسلمة في جهادها حتى حرّر القدس، وطهّرها من دنس المحتلين الفرنجة. بدأ مسيرة المقاومة للتحرير عماد الدين زنكي، وواصل تلك المسيرة نور الدين محمود لتنتهي منتصرة بتحرير القدس على يد صلاح الدين الأيوبي. وما كان لقائد عربي شرف تطهير بقية فلسطين وسواحل بلاد الشام من الفرنجة، بل كان ذلك لمسلم غير عربي هو الظاهر بيبرس.

وإذا كان الشاعر عمر أبو ريشة، رحمه الله، قد قال ما قال قبل أكثر من نصف قرن فماذا يقال عنا في الوقت الحاضر؟

قبل ثماني سنوات كتبت مقالة عنوانها «رحم الله الكرامة» أشرت فيها إلى تقبّل العرب، الإهانات الأمريكية المتتالية، مستخذين ومستدرّين دائماً لعطف من يعلم الجميع أنهم أعداء لا يرقبون فينا إلاّ ولا ذمة.

وقبل ست سنوات كتبت مقالة عنوانها «ورحم الله الحياء». وكان مما ورد فيها: «كيف يفهم مواطن عربي عادي -مثل كاتب هذه السطور- ما يجري وهو يرى أفراداً من شرفاء الغرب، رجالاً ونساء، يأتون إلى فلسطين المحتلة ليتحدَّوا قوات الصهاينة معبّرين عن احتجاجهم على جرائمها الشنيعة، ويرى في الوقت نفسه منع المواطنين العرب من التعبير عما في نفوسهم من ألم عميق وغضب شديد على من يقفون مع مرتكبي هذه الجرائم ضد إخوانهم وأخواتهم».

لقد سبق أن أشرت إلى ما قاله الشاعر أبو ريشة عن عرب زماننا. أما -وأنا أرانا لا نجد إلا اللجوء إلى مجلس الأمن أذلاَّ، متوسلين تجاه ما ارتكبه الصهاينة في جريمتهم على أسطول الحرية- فإني أجد من المستحسن ختام هذه المقالة بما قاله شاعر من وطني، هو محمد بن عبدالرحمن الفريح، في أبيات كتبها قبل نصف قرن، إذ قال:

طال التوسّل في الحقوق لعصبة

عن مسلك الحق المبيّن قد عموا

إنا لنجأر بالشكاة ونرتجي

حقاً تملّكه العدو المجرم

والكل يعلم أن من نشكو له

كان العدو فكيف يهدي المظلم؟

إن لم يكن للحق ما يُحمى به

فالموت أولى بالنفوس وأكرم

لقد صدق أبو عبدالرحمن فيما قاله. لكننا ما زلنا نبرهن على أننا ميتّون معنوياً. و»الضرب بالميّت حرام».

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد