إنها الدولة الوحيدة بالعالم التي تُحترم من قبل حماس وحزب الله وحركة طالبان مع احتفاظها أيضاً بعلاقات جيدة مع الحكومات الإسرائيلية واللبنانية والأفغانية. هذا ما قاله المفكر السياسي الأمريكي ستيفن كينزر عن تركيا. فكيف نحلّ اللغز؟
إذا بدأنا بمظاهر سياسات تركيا الخارجية، سنراها تمارس دور دولة عظمى تتوسط بين: إيران والغرب، سوريا وإسرائيل، الولايات المتحدة وطالبان.. مع نفوذ متزايد في آسيا الوسطى، ومساعدة جيرانها لتحسين علاقاتها مع بعضها البعض، بل بين أطراف داخلية لبعض البلدان، فقد ساعدت على إقناع السنة العراقيين للمشاركة في العملية السياسية العراقية، والآن تُصالح بين فتح وحماس!
في لقاء مع الباحث الإستراتيجي الأمريكي جورج فريدمان لصحيفة «Today›s Zaman» التركية بعد أحداث أسطول «غزة الحرة»، أكد أن تركيا يمكنها أن تؤثر بفعالية على الفلسطينيين، وتلعب دوراً أساسياً في المصالحة الفلسطينية، وتدعمهم لما يحتاجونه في هذه المرحلة، وهو محادثات جادة وراسخة مع الإسرائيليين. وقال بمجرد أن يتحدث الفلسطينيون بصوت واحد، فإن إسرائيل لن تتمكن من تفادي التعامل معهم جديا.
وقد صدر مؤخراً كتاب لهذا الباحث بعنوان «المائة سنة القادمة: التوقعات للقرن 21»، وفيه حاول إعادة استكشاف التاريخ وجغرافيته السياسية ليوضح أين ولماذا ستندلع حروب المستقبل وكيف سيتم خوضها، والتي سوف تكسب أو تفقد من خلالها الدول قوتها الاقتصادية والسياسية وكيف أن التكنولوجيات الجديدة والتوجهات الثقافية سوف تغير طريقة عيشنا بالقرن الجديد.
من مقتطفات هذا الكتاب حول تركيا: «أنه بحلول عام 2020، ستظهر تركيا كأحد الاقتصاديات العشرة الأولى بالعالم. فهي أصلاً منذ عام 2007 تقدمت للمرتبة السابعة عشرة، وهذا التقدم ينمو باطراد. تركيا ليست فقط دولة حيوية اقتصادياً بل ذات أهمية إستراتيجية عظمى، وتتمتع بأنها من أقوى المواقع الجغرافية.. هي جارة للعالم العربي وإيران وأوروبا، ودول الاتحاد السوفيتي السابق.. ونمو الاقتصاد التركي يرجع جزئياً لكون تركيا مركزاً للتجارة الإقليمية، فضلا عن قوتها الاقتصادية المنتجة في داخلها».
وفي هذا السياق يطرح المحلل السياسي الأمريكي روبرت نيمان تساؤلاً إستراتيجياً: هل تركيا الجديدة تمثل تهديداً لأمريكا، أم تشكل فرصة لتحالف جديد يعالج ويزيل تصاعد النزاعات في الشرق الأوسط؟ للإجابة على هذا السؤال لعله من المناسب أن نرجع لكينزر الذي استشهدت به في المقدمة، وهو من محرري نيويورك تايمز السابقين، وأصدر قبل بضعة أيام كتاباً بعنوان «إعادة تشكيل: مستقبل إيران، تركيا وأمريكا». يقول كينزر إن العالم منذ الحرب الباردة قد تغير بما يكفي لإعادة توازن جديد للعلاقات الأمريكية في الشرق الأوسط، بعيداً عن التعلق المفرط للسياسات الحالية بحكومة إسرائيل ونحو مزيد من التعاون مع تركيا وإيران، وسيكون ذلك لمصلحة أمريكا.
ويرى نيمان أن فكرة كينزر لهكذا علاقة جديدة مع تركيا وإيران قد تشكل صدمة للعديد من الأمريكيين غير المبادرين للتجديد، لاسيما مع إيران. فلسفة كينزر السياسية هي أن بناء الرؤية الإستراتيجية للمستقبل ليست فقط استقراء الحاضر، بل القدرة على تصور المستقبل الذي سيكون مختلفاً جذريا، مثلما رأى الرئيس نيكسون إمكانية لقيام علاقة مختلفة جوهرياً بين أمريكا الرأسمالية وعدوتها الصين الشيوعية، وتم توقيع بيان شنغهاي عام 1972 على أساس المصالح المشتركة والاحترام المتبادل، رغم أن الصين آنذاك كانت أشد عداوة وخطراً بكثير من إيران اليوم.
تقول الحكمة السياسية: «الذين لا يستطيعون تذكر التاريخ محكومون بإعادته»، وذلك ينطبق على أولئك الذين ينادون بسياسات عدائية أمثال هنري كيسنجر وافتتاحيات واشنطن بوست تجاه إيران، وهي تشبه كثيراً السياسات الفاشلة التي اعتمدتها بريطانيا وأمريكا ضد إيران عام 1953 كفرض عقوبات وتغيير النظام. لكن معاقبة الآخرين ليس هدفاً للدبلوماسية التي ينبغي أن تكون لتحقيق مصالحنا، كما يقول كينزر، فضلاً عن أنها تتعارض مع سياسة اليد الممدودة بلا شروط مسبقة التي وعد بها أوباما في خطابه أمام البرلمان التركي العام الماضي!
هنا تأتي حيوية تركيا في الساحة حيث يمكنها أن تغير قواعد اللعبة في المنطقة. ففي هذه الأيام انتقلنا من الحالة التي كان فيها الحصار المفروض على غزة منسياً عالمياً وغير مطروق بالنسبة لأمريكا إلى حالة صارت أمريكا نفسها تقول إن الحصار يجب أن يتوقف، بسبب تطورات كان لتركيا الدور الأساسي فيها. إذن - حسب كنزر- يمكن لتركيا أن تلعب دوراً مماثلاً فيما يتعلق بحل النزاع بين الولايات المتحدة وإيران بشأن البرنامج النووي الإيراني، وسوف يصبح العالم مكاناً أفضل وأكثر أمناً.
حتى الآن، كل التحليلات تتناول السياسات الخارجية لتركيا، لكن ماذا عن الداخل التركي الذي يعكس تلك السياسات؟ قبل أحداث أسطول «غزة الحرة» بأسبوعين نشر مركز أبحاث أمريكي تقريراً كتبه مايكل ويرز رصد فيه تحولاً في مراكز القوى الداخلية بتركيا نحو وسط وشرق البلاد، وبروز «الأناضول الجديدة»، أي المناطق الآسيوية في تركيا، وتغيير توزيع القوى السياسية الاقتصادية المحلية، وأوضح مثال هو مدينة أضنة حيث أصبحت تشكل مركزاً إقليمياً اقتصادياً يحل محل إسطنبول!
هذا التحول الدراماتيكي في الداخل التركي سينتج عنه جغرافيا سياسية جديدة في المنطقة مما يثير تداعيات كبيرة على السياسة في أنحاء الشرق الأوسط، حسب التقرير. فسمات حقبة الحرب الباردة لم تعد قائمة، وستجد أنقرة نفسها في خضم سياسات شرق البحر المتوسط، فيما تدور تجاذبات داخل المجتمع التركي حول الأدوار المستجدة في إطار هذه الدينامكية الجديدة. وخلص التقرير إلى أن عقلية «نحن، وهم» لم تعد صالحة لا في واشنطن ولا في أنقرة، للنظر للأمور كما كانت عليه خلال الحرب الباردة.
تركيا هي ثاني أكبر جيش في الناتو بعد أمريكا، لكن لم تعد قوتها تكمن بجيوشها الجرارة وعقيدتها العسكرية الصارمة لا الأتاتوركية ولا العثمانية كما يحلو للبعض تخيل الماضي لا المستقبل.. إنها تركيا المدنية ذات النظام الديمقراطي الليبرالي الذي يمنح كافة تيارات المجتمع التركي (يسارها ويمينها، علمانييها وإسلامييها) التعبير عن إبداعاتهم السلمية دون مصادرة عسكرية تعيق التنوع المدني الزاخر فيها.. قوة تركيا اليوم تكمن في استثمارها البارع لصحتها المدنية، وتسخير جيشها لحمايتها وليس لممارسة دور الشرطي المخيف بالمنطقة.
alhebib@yahoo.com