لا يمكن بأي حال إغفال الحركة المتسارعة في الوطن، فالقفزة التعليمية والإنفاق الحكومي في المشروعات العملاقة لا يمكن أن يمر بدون إحداث نقلة ثقافية في المجتمع السعودي، وأصبحت الأجواء مهيئة أكثر من أي وقت مضى للدخول في عصر جديد، له شروطه ومعالمه، وأيضاً له رموزه. ولكي تكتمل عناصر هذه القفزة لابد من زيادة نسب الفئات العاملة من المواطنين في السوق، وأيضاً لا بد من تطوير الأداء البيروقراطي في مختلف القطاعات، وضمان مساحة أكبر للتعبير...
بدأت ملامح دخول اقتصاد السوق تظهر معالمها على مختلف الفئات والطبقات في السنوات الأخيرة. فالملاحظ منذ فترة قصيرة أن كثيراً من فعاليات المجتمع أخذت حيزاً في حركة الدوران حول اقتصاد السوق، وصارت الفعاليات الدينية الأكثر تأثيراً في المرحلة الأخيرة، فقد قادت الحراك آلامهم في تاريخ اقتصاد السوق المحلي، وأضفت الاستشارات والفتاوى الدينية على الحركة الاقتصادية بعداً جديداً، عندما أصبحت أحد أهم المحركين لحركة الاقتصاد المحلي في سوق الأسهم والبنوك والاستثمارات المالية. وقريباً سيدخل سوق التأمين في الحركة الصاعدة، وسيحتاج حتماً إلى مباركة دينية، وقد يعتبر البعض أن ما يحدث أشبه بحركة الإصلاح الديني في تاريخ أوروبا وصعود الرأسمالية واقتصاد السوق.... لكن المعضلة الحالية أمام التطور الصاعد أن يتم أولاً منع استغلال بعض الفتاوى في تسويق المنتجات البنكية تحت مظلة الدين، فقد تم استغلالها تجارياً، وكانت النتائج غير جيدة، وثانياً أن تخرج التشريعات الاقتصادية من ضيق الفتوى الخاصة إلى رحابة التشريعات العامة.. بمعنى آخر تظهر الحاجة إلى قوانين مركزية في هذه المرحلة ملحة، فاستنزاف أرصدة المواطنين حركة مضادة لتطور اقتصاد السوق..
الغائب الأكبر في مدارات الحركة حول السوق هم المواطنون، فغالبية فرص السوق تحتلها العمالة الأجنبية في السوق السعودي، وأسواق المبيعات تكاد تخلو من العمالة السعودية في ظل غياب إستراتيجية لتوطين الوظائف في الأسواق السعودية.. لذلك سيظل التحدي الحقيقي لأصحاب القرار في جعل فرص العمل مهيئة للمواطنين من خلال تقنين توطين فرص العمل. فالفترة الزمنية أمام القوافل الكبيرة للخريجين أصبحت قريبة، وعدد الخريجين الحاليين في بعض الجامعات الجديدة تجاوز الخمسة آلاف خريج في العام، ومن خلال نظرة حسابية للمعطيات الوطنية سيتضاعف هذا العدد عشرات المرات خلال العقد القادم..
ستكتمل أضلاع المرحلة القادمة عندما يصبح المواطنون أولى بفرص العمل داخل السوق، وستذوب الفروقات الاجتماعية، وستعود الطبقة الوسطى للظهور مرة أخرى بعد أن اختفت تحت مظلة العمالة الأجنبية.. وفي ظل هذه التطورات ستختفي الحاجة إلى خطابات وعظية أو ثقافية موجهة. فإصلاح سوق العمل وتوطينه سينقل الوطن إلى مرحلة أخرى، وسيعيد تشكيل أطروحات الخطاب الثقافي، وسنكون من أوائل الدول في المنطقة. وما يحدث من تسارع تنموي قد يخرجنا من دوائر التكرار التاريخية في الدولة العربية الإسلامية..، فقد كانت أزمة الدولة العربية الإسلامية منذ القدم تكمن في إخفاء مظاهر الخلل من خلال منطق الاستبداد والتبرير غير المقنع، وذلك بسبب غياب خطاب نقدي ثقافي يواكب التطور المرحلي للمجتمع، وغياب إستراتيجية حكم المؤسسات..
أثبت الخطاب الثقافي الموجه فشله في البلاد العربية التي قامت على أيدولوجيات القومية العربية وغيرها، فقد تحولت المجتمعات داخل تلك البلاد من منتجة وعاملة إلى مدججة بالشعارات القومية الفارغة، ولذلك لا نحتاج في ظل الصعود التنموي إلى خطاب ثقافي موجه ولكن نقدي وبناء، وأيضاً لمساحة للتعبير أكثر، وفي ذلك مواكبة للحركة التنموية الحقيقية، وإي مخالفة لتلك الفطرة الإنسانية ستُحجب أوجه الفساد، وتوقف حركة الصعود.