مما يُحمدُ لطالب العلم بُعده عما يثير الناسَ وتستنكره أفهامُ العوام، لاسيما ما لا تدعو إليه الحاجة ولا تعم به البلوى وليس هو من ضرورات الدين.
وهذا من الحكمة التي تميزُ طالبَ العلم عن غيره، وهو مما دعا إليه سالِفو هذه الأمة وخيارُها، كما قال الإمامُ عليٌّ رضي الله عنه:
حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يُكذَّب اللهُ ورسولُه؟ رواه البخاري موصولاً.
وقال عبدُالله بن مسعود رضي الله عنه: ما أنت بمحدِّثٍ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة. رواه مسلم في مقدمة صحيحه.
قال شيخُ الإسلام رحمه الله في درء تعارض العقل والنقل (4 - 82):
ومن المعلوم أنه في تفاصيل آيات القرآن من العلم والإيمان ما يتفاضل الناسُ فيه تفاضلاً لا ينضبط لنا، والقرآنُ الذي يقرأه الناسُ بالليل والنهار يتفاضلون في فهمه تفاضلاً عظيماً، وقد رفع اللهُ بعضَ الناس على بعضٍ درجات كما قال تعالى: ?يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ? بل من الأخبار ما إذا سمعه بعضُ الناس ضرَّهم ذلك، وآخرون عليهم أن يصدقوا بمضمون ذلك ويعلموه، فمثلُ هذه الأحاديث التي سُمعت من الرسول صلى الله عليه وسلم أو ممن سمعها منه وعلم أنه قالها يجب على من سمعها أن يصدق بمضمونها، وإذا فَهم المراد كان عليه معرفته والإيمانُ به، وآخرون لا يصلح لهم أن يسمعوها في كثيرٍ من الأحوال، وإن كانوا في حالٍ أخرى يصلح لهم سماعها ومعرفتها ا.هـ كلامه.
ولا يقل قائلٌ إن هذا من الصدع بالحق وبيانِه وإن ترتب عليه ما ترتب!..
فإن هذا يكون فيما لابد من بيانه مما يترتب على تركه الفتنةُ وضياعُ الحق، أما إذا كان العكسُ فليس من هذا الباب، ولا يُحمد من أثار جدل الناس وأحدث بسببه فتنة.
وإن مما يتميز به العالمُ عن غيره كونه أفهمَ للنصوص الشرعية من ناحية الجمع بينها ومن ناحية الحكمة في تطبيقها، وإلا فلو كان الأمر مجرد قراءةٍ للنصوص لما كان للعالم على غيره فضل.
فإن قيل إن إخفاء ذلك هو من كتمان العلم الذي جاءت النصوصُ بذمِّ فاعله..
قيل: نعم! جاءت النصوصُ الشرعية بالوعيد الشديد لمن كتم علماً، ولكن العلم الذي يحرم كتمُه هو ما تتوقف عليه معرفةُ الحلال والحرام مما حاجةُ الناس إليه ماسة، أو من أمور العقائد التي لا يسَعُهم جهلُها، أما كون العالم يسكتُ عما يُخشى من عواقبه لدى العوام بسبب قصور أفهامهم عنه مع عدم حاجة عمومهم إليه؛ فليس هو من كتمان العلم في شيء، بل دلت النصوص على أن هذا من الحكمة، فقال الإمامُ البخاري في صحيحه: باب من خص بالعلم قوماً دون قومٍ كراهية أن لا يفهموا، ثم روى بإسناده عن أنسٍ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذٌ رضي الله عنه رديفه على الرحل قال: يا معاذ بن جبل. قال: لبيك يا رسول الله وسعديك. قال: يا معاذ. قال: لبيك يا رسول الله وسعديك - ثلاثاً - قال: ما من أحدٍ يشهدُ أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صدقاً من قلبه إلا حرمه اللهُ على النار. قال يا رسول الله أفلا أخبر به الناس فيستبشروا؟ قال إذاً يتَّكلوا. وأخبر بها معاذٌ عند موته تأثماً.
قال ابن رجب رحمه الله فيما نقله عنه الحافظُ في الفتح (11-348):
قال العلماء: يؤخذ من منع معاذٍ من تبشير الناس لئلا يتكلوا أن أحاديث الرخص لا تشاع في عموم الناس لئلا يقصر فهمهم عن المراد بها ا.هـ
وقال البخاري رحمه الله:
باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهمُ بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه..
ثم ساق بسنده عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا عائشةُ لولا قومك حديثٌ عهدهُم بكفرٍ لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين بابٌ يَدخل الناسُ وبابٌ يخرجون» متفقٌ عليه، قال الحافظُ ابنُ حجر في فتح الباري (1-271):
في الحديث معنى ما ترجم له لأن قريشاً كانت تُعظِّم أمر الكعبة جداً، فخشي صلى الله عليه وسلم أن يظنوا لأجل قُرب عهدهم بالإسلام أنه غيَّر بناءها لينفرد بالفخر عليهم في ذلك، ويُستفاد منه تركُ المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة، ومنه تركُ إنكار المنكر خشية الوقوع في أنكر منه، وأن الإمام يسوس رعيته بما فيه إصلاحهم ولو كان مفضولاً ما لم يكن محرماً.ا.هـ
وهذا حافظُ الأمة أبو هريرة رضي الله عنه كان يرى فضيلة إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء، غير أن من فقهه رضي الله عنه أنه كان يخفي ذلك عن الناس، كما أخرج مسلمٌ في صحيحه (250) عن أبى حازمٍ قال: كنت خلف أبي هريرة رضي الله عنه وهو يتوضأ للصلاة، فكان يمدُّ يده حتى تبلغ إبطه، فقلتُ له يا أبا هريرة ما هذا الوضوء؟ فقال يا بني فَرُّوخ أنتم ها هنا؟ لو علمتُ أنكم ها هنا ما توضأتُ هذا الوضوء، سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول: «تبلغُ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء»، قال القاضي عياض في إكمال المُعلِم (2-53):
وإنما أراد أبو هريرة رضي الله عنه بكلامه هذا أنه لا ينبغي لمن يُقتدى به إذا ترخص في أمرٍ لضرورة، أو تشدد فيه لوسوسة، أو لاعتقاده في ذلك مذهباً شذَّ به عن الناس أن يفعله بحضرة العامة الجهلة، لئلا يترخصوا برخصته لغير ضرورة.ا.هـ
وقال الشاطبي رحمه الله في الموافقات (4-189):
ومن هذا يُعلم أنه ليس كل ما يُعلم مما هو حق يُطلب نشره، وإن كان من علم الشريعة ومما يفيد علمًا بالأحكام، بل ذلك ينقسم، فمنه ما هو مطلوب النشر، وهو غالب علم الشريعة، ومنه ما لا يُطلب نشره بإطلاق، أو لا يُطلب نشره بالنسبة إلى حالٍ أو وقتٍ أو شخص... قال رحمه الله:
وقد فرض العلماءُ مسائلَ مما لا يجوز الفتيا بها وإن كانت صحيحةً في نظر الفقه..
ثم ذكر رحمه الله أمثلةً مما لا يسوغ ذكرها للعوام وقال: إلى غير ذلك مما يدل على أنه ليس كل علمٍ يُبث ويُنشر وإن كان حقًا، وقد أخبر مالكٌ عن نفسه أن عنده أحاديث وعلمًا ما تكلم فيها ولا حدَّث بها، وكان يكره الكلام فيما ليس تحته عمل، وأخبر عمن تقدمه أنهم كانوا يكرهون ذلك.ا.هـ
وقد قرر أهلُ العلم مسائل كثيرةٍ تتعلق بالفتيا وآدابها، فإن الإفتاء لا ينحصرُ بحفظ النصوص الشرعية مجردةً عن الحكمة في تنزيلها منازلها اللائقة بها، ومن ذلك أن لا تكون سبباً في إثارة الناس في الأمور التي يسع المفتي السكوت عنها.
ومنها ترك إجابة السائل إذا سأل عما لا يعنيه، فإن كثيراً من الناس اليوم يسألُ عما لا يعنيه ولا يحتاج إليه، فمثلُ هذا يُسلك معه أسلوب التربية وذلك بتوجيهه إلى السؤال عما ينفع وترك ما لا ينفع، وقد نزل من القرآن ما فيه تربيةٌ لأصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك كقوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ?.
وقد أخرج ابنُ سعدٍ في حِلية الأولياء (3-327) عن التابعي الجليل عكرمة رحمه الله قال: قال لي ابنُ عباسٍ رضي الله عنه: انطلِق فأفتِ الناس، فمن سألك عما يعنيه فأفتِه، ومن سألك عما لا يعنيه فلا تُفتِه.ا.هـ
ومن ذلك أيضاً ترك الجواب إذا خاف المفتي فتنةً يدبرها المستفتي، أو خاف أن يستغلها الفسقةُ لمآربهم، فإنه مع وجود الإفتاء المباشر الذي يراه ويسمعه الملايين من الناس قد يسأل من لا يريد حقاً وإنما هو طالبٌ للتشغيب على أهل العلم والكيدِ للدين، فيجب على من ابتلاه الله بالإفتاء المباشر أن يكون حذراً يقظاً مستصحباً قول: الله أعلم، أو: تبحث هذه المسألة، أو: هذا الجواب يحتاج إلى اتصالٍ خاص، وما أشبه هذه العبارات التي لابد منها في بعض الأحيان.
فالمفتي الحكيمُ هو الذي يراعي مخاطبة الناس بما يفهمونه، ويترك ما لا يفهمونه مما لا تحتمله عقولهم، أو بما يخاف عليهم من تحريفه إذا أرادوا نقله والتعبيرَ عنه لعدم قدرتهم على ذلك.
كما أنه من الحكمة في بعض الفتاوى أن تُفرد بالشخص الذي يحتاج إليها دون تعميمها لمن لا يحتاج إليها، وذلك بالنظر إلى حاله فإن كانت مطابقةً أو مشابهةً لما وردت فيه الرخصةُ أفتي وإلا مُنع، يقول الشاطبي رحمه الله في الموافقات (4-191):
وضابطه أنك تعرض مسألتك على الشريعة، فإن صحت في ميزانها، فانظر في مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله، فإن لم يؤد ذكرُها إلى مفسدةٍ فاعرضها في ذهنك على العقول، فإن قبلَتها فلك أن تتكلم فيها إما على العموم إن كانت مما تقبلها العقول على العموم، وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم، وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ، فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعية والعقلية. ا.هـ كلامه.
وهذا الشيخ الفقيه ابنُ عثيمين رحمه الله لما رجح حجية القراءة الشاذة إذا صح سندُها قال:
لكن لا نقرأ بها أمامَ العامَّة؛ لأننا إذا قرأنا بها أمامَ العامَّة حصل بذلك فتنةٌ وتشويش، وقِلَّةُ اطمئنانٍ إلى القرآن الكريم، وقِلَّةُ ثقةٍ به، وهذا لا شَكَّ أنه مؤثِّرٌ ربما على العقيدة فضلاً عن العمل، لكن الكلام فيما بين الإنسان وبين نفسِه، أو فيما بينه وبين طَلَبَةِ العِلم الذين يفهمون حقيقة هذا الأمر... قال:
والحاصلُ: أنه ينبغي لطالب العِلم أن يكون معلِّماً مربياً، والشيءُ الذي يُخشى منه الفتنة؛ وليس أمراً لازماً لا بُدَّ منه؛ ينبغي له أن يتجنَّبه. ا.هـ من الشرح الممتع (3-116).
وثمة دقيقةٌ خفيةٌ يجب على المفتي أن يتفطن لها ويحذر منها وهي حب الشهرة، وهو داءٌ كم أفسد من نفوسٍ وأمرض من قلوب، لاسيما من عُرف بكثرة المخالفة والإغراب في الفتاوى، أو من لم يُعرف بعلمٍ أصلاً فإذا برز كان بروزه سبباً في الفتنة والتشغيب.
ثانياً: ليس كلُّ من اشتهر بشيءٍ يتعلق بأمرٍ من أمور الدين يكون أهلاً للفتيا، وهذا مما اختلط على كثيرٍ من الناس، فهناك من يشتهرُ بالخطابة والوعظ، وهناك من يشتهرُ بالرقية الشرعية، ومنهم من تكون شهرته بتأويل الرؤى، ومنهم من عُرف بعلاج المشاكل الاجتماعية، فاستفتاءُ من هذه حاله دون النظر إلى أهليته؛ خللٌ أورث اللبس على الناس واختلطت عليهم الأحكامُ وظهر في نفوسهم التناقضُ وكثر فيهم الخلاف، وقد قال القرطبي في المفهم (5-298):
لو سكت الجهالُ قل الخلاف.
ثالثاً: الوقوع في عِرض من صدر منه مثلُ هذا القول والتنقصُ منه لا يحل شرعاً، وهو من الغيبة التي هي من كبائر الذنوب، والمنهج الشرعي مناقشة القول دون التنقص من قائله إن كان من أهل العلم، وما منا إلا رادٌّ ومردودٌ عليه، هذا بالنسبة لمن كانت لديه الأهليةُ لذلك من طلاب العلم، أما إن كان عامياً فيسأل من يثق بدينه وعلمه عما أشكل عليه، مع وجوب الإمساك عن الكلام في الأعراض وتنقص الذوات.
كما أن هذا المجتهد إن كان من أهل العلم فهو مأجورٌ وإن أخطأ، ففي حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا حكم الحاكمُ فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر) متفقٌ على صحته.
والأمر كما قال الإمامُ ابنُ القيم رحمه الله في زاد المعاد (5-590):
هي مسألة اجتهاد، وأحدُ الحزبين مأجورٌ أجراً واحداً والآخرُ مأجورٌ أجرين، وأسعدهما بالأجرين من أصاب حكمَ الله ورسوله في هذه الواقعة، فكلٌّ من المُدخِل للستر المصون بهذه الرضاعة والمانعِ من الدخول فائزٌ بالأجر، مجتهدٌ في مرضاة الله وطاعة رسوله وتنفيذ حكمه، ولهما أسوةٌ بالنبيَّين الكريمين - داود وسليمان اللذَّين أثنى اللهُ عليهما بالحكمة والحُكم، وخص بفهم الحكومة أحدَهما. ا.هـ
رابعاً: وأما مسألةُ رضاع الكبير هل يكون معتبراً أو لا؟ فهي مسألةٌ مبثوثةٌ في كتب العلماء فليست جديدة ولا وليدة، والنصوص تدل على أنه لا يُعتبر إلا ما أنبت اللحم وأنشز العظم، بمعنى أن الجسم تغذى عليه وكان سبباً في نشوئه كما كان ماءُ الرجل سبباً في خلقه، وما ذهب إليه بعضُ العلماء من الاستدلال بحديث عائشة رضي اللهُ عنها أن سالماً مولى أبي حذيفة رضي الله عنه كان مع أبى حذيفة وأهله في بيتهم فأتت - تعنى ابنة سهيل زوجته - النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن سالماً قد بلغ ما يبلغ الرجال وعقل ما عقلوا، وإنه يدخل علينا وإني أظن أن في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئاً. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «أرضعيه تحرمي عليه ويذهب الذي في نفس أبي حذيفة». فرجعتْ فقالت إني قد أرضعته فذهب الذي في نفس أبي حذيفة. رواه مسلم.
وأخرج البخاري في صحيحه أن أبا حذيفة تبنى سالماً.
فإن هذا المذهب قد قال به بعضُ العلماء رحمهم الله، ولكن هل كلُّ قولٍ قيل به يكون صواباً؟ الجواب: لا، فإن الحق لا يمكن أن يتعدد، كما أنه لا يجوز للعامي أن يجعل أيَّ قولٍ قيل به ذريعةً إلى الترخص، فإنه مما ابتلينا به في هذه الأزمنة أن بعض الناس يتصيد مثل هذه الأقوال، فإذا عثر على ما يوافق هواه من الأقوال الغريبة أو الشاذة فكأنه وقع على كنز، يطيرُ به فرحاً وينشره قدر استطاعته في وسائل الإعلام ظاناً أن هذا من العلم الذي يجب تبليغه، متهماً أهل العلم بتعمد إخفاءه والظن به على الناس..
ومن المعلوم أن كثيراً من مسائل الفقه لا تخلو من خلافٍ بين الفقهاء، والعبرة في العمل بالحكم الشرعي ما وافق الدليل، ومثلُ هذا لا يمكن للعامي أن يعرفه وإنما يلزمه أن يسأل من يثق بدينه وعلمه، سؤال إبراء للذمة لا سؤال هوىً وشهوة
?فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ?.
ومسألة الرَّضاع شأنها شأن غيرها من المسائل التي وقع فيها الخلاف، ليس في رضاع الكبير فحسب، فإن من العلماء من ذهب إلى أنه يكفي في التحريم رضعةٌ واحدة، كما هو مذهب أبي حنيفة ومالكٍ ورواية عن أحمد، والصواب الذي عليه الجمهور أنه لا يُحرِّمُ أقل من خمس رضعات، وحديث عائشة رضي الله عنها الذي رواه مسلم (كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعاتٍ معلوماتٍ يُحرِّمن، ثم نُسخن بخمسٍ معلومات) صريحٌ في هذا الحكم ومقيِّدٌ لمطلق النصوص.
وكثيراً ما يكون سببُ مثل هذا الخلاف خفاء النص على من قال بخلافه، أو تأويله تأويلاً يؤجرُ عليه وإن كان مخطئاً باعتباره أهلاً للاجتهاد.
فرضاع الكبير ورد لمناسبةٍ خاصةٍ لها ظروفُها ولم يأتِ ابتداءً، وإذا تظافرت النصوصُ في بيان مسألةٍ من المسائل، ثم ورد عليها نصٌّ لم يرد ابتداءً وإنما ورد بعد سؤالٍ فجاء الحكمُ على خلاف الأصل؛ كان هذا مستنداً قوياً لتضييق هذا الحكم وحصره بأحد أمرين: إما خصوصية العين أو خصوصية الوصف، وليس من منهج أهل العلم ترك الأصل لحكمٍ طاريءٍ مطلقاً، بل الواجب الاستمساك بالأصل حتى يرد عليه ما يعلوه أو يساويه من النصوص دون ما هو أدنى منه.
فإذا سلمنا بعدم خصوصية العين وأن الأصل تساوي الأمة في الأحكام؛ وأخذنا بخصوصية الوصف فحينئذٍ لابد من بيان القدر الذي يمكن أن تُضبط به مثلُ هذه المسألة.
والمُلجئ لهذا الضبط هو أن إطلاق المصطلحات للناس (كمصطلح الحاجة والضرورة) يسبب الفوضى في تنزيل الأحكام على الأعيان، إذ إن تحديد مقدار الحاجة أو الضرورة مما تتفاوت فيها الأفهامُ تفاوتاً كبيراً، وهي مما تختلفُ زماناً ومكاناً، فكما أن عوام الناس بحاجةٍ إلى بيان الأحكام الشرعية بياناً يزيل اللبس ويرفع الجهل؛ فهم بحاجةٍ إلى ضبط هذه المصطلحات الواردة على خلاف الأصل، وكما أن الله تبارك وتعالى ما جعل علينا في الدين من حرج؛ فكذلك يلزم العالم ألا يجعل على المستفتي حرجاً في سؤاله، من ناحية إقحامه في مصطلحاتٍ لا يستطيع ضبطها ضبطاً يتوافق مع النصوص، أو يكون قريباً منها قرباً ينفي عنه الوقوع في الحرج والإثم، لاسيما وأن الناس قد فتحوا على أنفسهم أبواباً من الرخص التي يبعد أن تكون مرادة من الشارع الحكيم، والتي كان من أسبابها إقحامهم بمصطلحاتٍ تعجز أذهانُهم عن معرفة كيفية تنزيلها على الواقعة.
فعلى من أفتى بمثل هذه الفتيا وقرنها بالحاجة أن يبين ذلك بأمثلةٍ توضح هذه الحاجة، إذ لا يخلو بيتٌ من أبيات المسلمين إلا وله حاجةٌ لمثل هذا الحكم، فيكون إطلاقُ مصطلح الحاجة - والحالةُ هذه - لاغياً لا قيمة له ولا طائل تحته، فإذا كان هذا في وقتنا الذي تتوفر فيه كافة الإمكانات وتتيسر فيه كثيرٌ من الأمور؛ فكيف الحالُ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم الذي هم أحوج منا إلى مثل هذا الحكم، فإنهم كانوا يسافرون للغزو والحج والعمرة، فيحتاجون إلى من يخلفهم في أهلهم ويقوم بشؤونهم ويحفظهم من ورائهم، وفيهم كذلك الضعيف الذي يحتاج إلى من يَدخل عليه ويَخدمه ممن ليس بينه وبين امرأته محرميةٌ تخوِّل له الدخول عليها، وكانت النساءُ بحاجةٍ إلى من يصحبهن في السفر إما للمناسك أو للهجرة أو لغير ذلك، ومع ذلك لم نجدهم توسعوا في ذلك، وهذا من أبين الأدلة على أن هذا الحكم محصورٌ بخصوصية العين أو الوصف المنضبط.
ومن الحاجة التي يسوغ قياسها على هذا الحديث في هذا الزمن مثلاً ما يوجد عند بعض الناس من اللقطاء الذين تربوا عندهم سنين طويلة، وعاشوا عندهم على أنهم أبناء لهم، فإن مصارحتهم بحقيقة حالهم قد يترتبُ عليها ضررٌ نفسيٌّ كبير، ومن القواعد المقررة في الشريعة أن الأمر إذا ضاق اتسع، ففي هذه الحالة النادرة الوقوع قد يُلجأ إلى مثل هذا القول.
ومن الأمثلة كذلك ما لو أسلم كافرٌ قد تبنى ولداً ليس له، مما كان عليه أهلُ الجاهلية وكان في صدر الإسلام - كما في حال سالمٍ مع حذيفة - ففي هذه الصورة يمكن الأخذ بها لكونها مطابقةً للحال التي رخص فيها النبيُّ صلى الله عليه وسلم لسهلة رضي الله عنها.
أما إطلاق الحاجة دون ضبطٍ فهذا يورث ما يورث عند العوام من إشكالاتٍ ترتب عليها القصور في فهم المراد، مما سبب الغلط في كيفية تنزيل الواقعة وتطبيقها.
وقد اتفق الأئمةُ الأربعة رحمهم الله على أن رضاع الكبير غير معتبر، وقال سماحة شيخنا ابنُ بازٍ نور الله ضريحه في مجموع فتاواه (22 - 263):
الصحيح من قولي العلماء أن هذا خاص بسالم وبسهلة بنت سهيل وليس عاماً للأمة، قاله غالبُ أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وقاله جمعٌ غفيرٌ من أهل العلم وهذا هو الصواب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا رضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام»، ولقوله عليه الصلاة والسلام: «إنما الرضاعة من المجاعة» رواه الشيخان في الصحيحين، ولقوله أيضا عليه الصلاة والسلام: «لا رضاع إلا في الحولين»، فهذه الأحاديث تدل على أن الرضاع يختص بالحولين ولا يؤثر الرضاع بعد ذلك، وهذا هو الصواب.ا.هـ
وقال الشيخ الفقيه ابنُ عثيمين قدس الله روحه:
أما خصوصية الوصف فالأمر فيها قريب، وقد اختار ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقال: إنه إذا كان المقصود بالإرضاع التغذية فإنه لا يكون إلا في زمن الرضاع، وإذا كان المقصود بالرضاع دفع الحاجة جاز ولو للكبير، وعندي أن هذا - أيضاً - ضعيف، وأن رضاع الكبير لا يؤثر مطلقاً، إلا إذا وجدنا حالاً تشبه حال أبي حذيفة من كل وجه.
ويرى بعض العلماء أن مطلق الحاجة تبيح رضاع الكبير، وأن المرأة متى احتاجت إلى أن ترضع هذا الإنسان وهو كبيرٌ أرضعته وصار ابناً لها، ولكننا إذا أردنا أن نحقق قلنا: ليس مطلق الحاجة، بل الحاجة الموازية لقصة سالم، والحاجة الموازية لقصة سالم غير ممكنة؛ لأن التبني أُبطل، فلما انتفت الحالُ انتفى الحكم، ويدل لهذا التوجيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: «إياكم والدخول على النساء» قالوا: يا رسول الله، أرأيت الحمو - وهو قريب الزوج كأخيه مثلاً - قال: «الحمو الموت» متفقٌ عليه، والحمو في حاجة أن يدخل بيت أخيه إذا كان البيت واحداً، ولم يقل عليه الصلاة والسلام: الحمو ترضعه زوجةُ أخيه، مع أن الحاجة ذُكرت له، فدل هذا على أن مطلق الحاجة لا يبيح رضاع الكبير؛ لأننا لو قلنا بهذا لكان فيه مفسدة عظيمة، وكانت المرأة تأتي كل يوم لزوجها بحليب من ثديها، وإذا صار اليوم الخامس صار ولداً لها، وهذه مشكلة، فالقول بهذا ضعيفٌ أثراً ونظراً، ولا يصح... قال:
والخلاصة أنه بعد انتهاء التبني نقول: لا يجوز إرضاع الكبير، ولا يؤثر إرضاع الكبير، بل لا بد إما أن يكون في الحولين، وإما أن يكون قبل الفطام، وهو الراجح. ا.هـ
أسأل الله أن يفقهنا في دينه وأن يصلح قلوبنا ويرزقنا حسن الاتباع..