قال الحسن -رحمه الله- (موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار) انتهى. وما هذا القول منه إلا للمكانة التي يتبوؤها العالم بين الناس، ولأنَّ العلم إنما يذهب بذهاب العلماء، فإذا ذهبوا انتشر الجهل بين الناس فاتخذوا رؤساء جهّالاً فسألوهم فأفتوهم بلا علمٍ فضلوا وأضلوا، عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علمٍ فضلوا وأضلوا) متفق عليه، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال (هل تدرون ما ذهاب العلم؟ قلنا: لا، قال: ذهاب العلماء) رواه الدرامي (1-78). وحياة العلماء حياةٌ للناس قال الشاعر:
|
الأرض تحيا إذا ما عاش عالمها |
متى يمت عالم منها يمت طرفُ |
كالأرض تحيا إذا ما ألغيث حلَّ بها |
وإنْ أبى عاد في أكنافها التلفُ |
موتُ العلماء يصعقُ قلوبَ الصَّالحين، إذ العلماء هم ورثة الأنبياء، وهم أكثر الناس خشية لله تعالى، قال عزَّ من قائل عليماً {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} الآية، ولقد وصلني خبر وفاة شيخنا العلامة الأصوليّ اللوذعي عبدالله بن عبدالرحمن بن عبدالرزاق بن قاسم آل غديَّان التميمي -رحمه الله- فحزنَ الفؤاد وذرفت العين. فالمصيبةُ في فقد العلماء فقدُ توجيههم وإرشادهم ونصحهم للناس والأمة جمعاء. وشيخنا -رحمه الله- من أعلام علماء الأصول على مستوى العالم الإسلامي، ويشار إليه بالبنان في ذلك، ولقد عاش حياته زاهداً ورعاً مراقباً الله في جميع أحواله وما يصدر منه من فتاوى، كانت خشية الله لا تفارقه، وشيخنا -رحمه الله- من جيل كبار العلماء الذين تتلمذوا على شيخ مشايخنا سماحة مفتي الديار السعودية محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمهم الله، وفي عام 1386هـ عيّنه سماحته عضو إفتاء في دار الإفتاء، وفي عام 1391هـ عيّن عضواً في اللجنة الدائمة للإفتاء إضافة إلى عضويته في هيئة كبار العلماء حتى وفاته -غفر الله له- وقد كان مدرسةً علميةً تربويةً وقدوةً حسنةً صالحةً لمن عرفوه وأحبُّوه، كما كان مسدداً في فتياه، مؤيداً في مسيرته المتزنة، ولقد كان ناصحاً شفيقاً بطلابه ومحبيه، يعلوه هيبة في تواضع جمٍّ للصغير والكبير، ذلك التواضع الذي عرفه وتحدَّث به القاصي والداني ممن عرف الشيخ والتقى به. وعرفتُ شيخنا -رحمه الله- ذا أخلاق فاضلة ودعابة تمتزجُ معها فائدة تُضفي على مجالسه رونقاً من الارتياح والأنس. ولقد شرفتُ بالالتقاء بشيخنا مرَّات كثيرة، فكان أولها عندما مررتُ بالقرب من مكتبه في رئاسة البحوث العلمية والإفتاء، وكان معي ابني الذي لم يتجاوز حينها ثماني سنوات، فسلَّمتُ عليه وقبَّلتُ رأسه ومن ثمَّ سلَّم الشيخ على ابني وبدأ بمداعبته فما كان منه إلا أنْ أمر ابني بإغلاق كف يده وباشر ذلك بنفسه وقال له (ماذا في يدك؟)، فتعجَّبتُ من هذا الموقف وهذا التواضع الذي تجلى في القمَّة وهو يداعبُ طفلاً صغيراً ليُدخل عليه السرور، حينها أدركتُ تواضع الشيخ وأريحيته وعرفتُه عن قرب، وبعدها حرصتُ على زيارة الشيخ للسلام عليه في مكتبه، وفي إحدى المرَّات حضرتُ لزيارته فوجدتُ الباب مقفلاً فطرقتُه طرقاً خفيفاً وانتظرتُ هنيهة فلَّما أردتُ الانصراف وإذ به يفتح الباب ويقول لي: هل تريد شيئاً؟ فقلت: إنما أردتُ السلام عليك فابتسمَ ابتسامةَ المحب -رحمه الله- وعرفتُ شيخنا فطناً ذكياً لم يزده علمُه إلا تواضعاً، كما لم يكنْ يسعى يوماً من الأيام لنيل شهرة بين الناس أو لطلب حظوة عند الخاص والعام، بلْ كان عملُه لله تعالى نحسبه والله حسيبه ولا نزكي على الله أحداً، وله إجاباتٌ سديدةٌ مسكتةٌ، وله نظرة ثاقبة وفراسة في الأشخاص الذين يزورونه ويلتقون به، ولقد كانت المجالس التي جمعتني بالشيخ مجالسٌ لا تمل ولن أنسى عبقها ما حييتُ لما كان يغمرني به من طيب أخلاقه ونصحه وتوجيهه، ولقد تعلَّمتُ وأفدتُ من مجالسته وفتياه وعلمه ما يكونُ فيه إضاءة للطريق ونفع في المستقبل، ومرّة سألته عن أحد طلاب سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم فوجهني إلى أحد المشايخ وقال: هو أعرف الناس بطلاب شيخنا محمد بن إبراهيم في وقتنا الحاضر، فنفعني بذلك التوجيه، فجزاه الله عني خيراً. والقصص التي تُروى عن الشيخ كثيرةٌ يتداولها الناس خصوصاً من جيرانه ومنْ يعملُ في رئاسة الإفتاء، فهم يعرفون للشيخ قدره ويعرفون زُهده وتواضعه، ويحبونه لحسن أخلاقه وطيب كلامه وحسن معاشره. ومن تلك القصص أنَّه عندما رآه من يعرفه وقد حمل بعض حاجاته متوجهاً إلى منزله فقال له: (عنك يا شيخ)، يقصد بذلك دعني أحمل تلك الحاجة عنك، فرفض الشيخ وأبى عليه. والشيخ -رحمه الله- لا يتوانى في الرقية الشرعية لمن طلبها، وحدثني من أثق به من طلاب الشيخ الملازمين له أن في يوم من الأيام طلب أحد الأشخاص من الشيخ أن يرقي والدته التي لا تكاد تتحرك من مرضٍ عرض لها، فقرأ عليها الشيخ وأمرهم أن يعودوا بعد أسبوع فلما عادوا وإذا بها بدأت تتحرك أطرافها، فقرأ عليها الشيخ مرة أخرى فشفاها الله، ومن القصص كذلك أن رجلاً أصيب بحروق في حادث سيارة وقرر الأطباء عدم إمكانية بناء لحم جديد بدل اللحم المحترق، فقرأ عليه الشيخ، وبعد مدة بدأ اللحم يتجدد وبدأت حالته تتحسن. وسيرة الشيخ الاجتماعية حرية بالتدوين ليُفاد منها وليعلم الناس كيف هي أخلاق العلماء الربانيين؟ وكيف يتعامل العلماء مع الناس؟ وحريٌّ بأبناء الشيخ وطلابه أن يجمعوا مجموعاً فيه فتاوى الشيخ التي بُثَّتْ عبر برنامج نور على الدرب وما استطاعوا من الفتاوى التي يلقيها في القاءات المفتوحة التي كان يقيمها في المساجد. ومما عرفته عن شيخنا أنه إمامٌ في تأويل الرؤى إلا أنه لم يفتح الباب لعموم الناس. وكان له -رحمه الله- رأي في التأليف، فكان لا يحرص على تأليف الكتب ويقول: لا داعي لتكرار التأليف إذ منْ سبق من العلماء لم يدعوا علينا نقصاً فيه.. لقد كانت حياته -رحمه الله- حافلةً بالخير ودلالة الناس عليه، فقد عاش تلك الحياة قدوةً حسنة تذكّر بما كان عليه سلف الأمّة. ومن الدروس المستفادة من حياة الشيخ التأني والتؤدة في إفتاء الناس في المسائل خصوصاً المسائل التي تخص عموم المسلمين، وكذلك أهمية التأسيس العلمي لطالب العلم، فقد كان يحرصُ أن لا يحضر دروسه إلا من تجاوز مرحلة التأسيس العلمي. ومن الدروس أيضاً أن الصمود والثبات في ظلِّ المتغيرات وما يعرض للمرء في فتن عاصفة دليل قوّة وتوفيق تصاحب العلم والخشية لله تعالى، فها هو الشيخ أمضى قرابة خمسة عقود في الإفتاء وما زال ثابتاً على ما كان عليه إلى أن لقي الله تعالى، ومن الفوائد أيضاً الحرص على حسم الأمور على وجهها الصحيح بما لا يدع لأحد مقالاً، ومن الفوائد أيضاً أن التواضع لا يزيد إلا رفعة، وسيرة لا يفي بها جملة من الأسطر على هيئة مقال، ولكن هذا ما وفق الله لذكره. عوَّض الله الأمّة فيه خيراً وجبر مصابها، وقبل موته بقرابة شهرين أُدخل المستشفى التخصصي بالرياض ومكث فيه إلى أن توفاه الله يوم الثلاثاء الموافق 18-6-1431هـ، فأسف الناس لفقده، وفقدت اللجنة الدائمة للإفتاء ركناً قوياً من أركانها، وصلي عليه بعد صلاة عصر يوم الأربعاء الموافق 19-6-1431هـ في جامع الملك خالد بأم الحمام وشيَّعه آلاف الناس وأمَّهم في الصلاة عليه سماحة المفتي عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ، وتقدم جموع المصلين صاحب السمو الملكي الأمير سطام بن عبدالعزيز أمير منطقة الرياض بالإنابة، وجمع من كبار العلماء من أعضاء اللجنة الدائمة للإفتاء وغيرهم وطلاب الشيخ ومحبوه وأقاربه في جموع مشهودة وأفئدة محزونة، وامتلأ الجامع قبل أذان العصر بنصف ساعة وامتلأت الساحات التي حوله، وصلي عليه أيضاً في مقبرة أم الحمام فئامٌ كثيرةٌ من الناس الذين لم يتمكنوا من الصلاة عليه في الجامع للزحام الشديد. غفر الله لشيخنا وأسكنه الفردوس الأعلى في الجنة وجمعنا به في دار كرامته ومستقرِّ رحمته، وعفا عني وعنه وألهم ذويه ومحبيه الصبر والسلوان، وحفظ الله العلماء وقادة البلاد من كل شرّ وسوء.. آمين.
|
عمر بن عبدالله بن مشاري المشاري |
المشرف على مكتبة الرياض السعودية برئاسة الإفتاء |
|