يشكك البعض بمصطلح الأمن الفكري ويدعون أنه خلاف الحرية التي ضمنتها الشرائع والدساتير للإنسان، وخلافاً لهؤلاء أجزم أن الأمن الفكري يعد اليوم من أبرز مفردات الأمن الوطني الذي توليها الدول والشعوب أهميته الخاصة خاصة في عالمنا المعاصر، ويعني مصطلح - الأمن الفكري- في نظري-: (حماية الإنسان من الانحراف الفكري ووقايته من منهجي الإفراط والتفريط، وضمان سلوكه جادة الوسطية والاعتدال). تتقاطع وتتقارب مع هذا المصطلح «الأمن الفكري» مصطلحات عدة لعل من أقربها له مصطلح الأمن الثقافي وإن كان الثاني أكثر اتساعاً وأشمل دلالة، وكذا الأمن العقدي وإن كان هذا أكثر التصاقاً بالنص ويحتل مساحة أوسع في الدراسات العلمية المتخصصة، وهناك الأمن القيمي، والأمن الأخلاقي «السلوكي»، و... إذ إن العقيدة والقيم والأخلاق من أهم ركائز البناء الفكري في أي مجتمع، وفي ذات السياق يأتي في مقام المماثلة تقريباً مصطلح الوسطية والاعتدال، وعلى طرفي نقيض يأتي الحديث عن التطرف والغلو والغزو الفكري والتغريب. وربط الفكر بالأمن في هذا المصطلح يجعلنا أمام مركب مهم خاصة في هذا العصر الذي يشهد العالم فيه سرعة في التواصل وبناء العلاقات وسهولة لم يسبق لها مثيل في انتقال الأفكار وتبادل المعلومات. لقد جاء هذا الدين بمفهوم الأمن الشامل المرتكز على سلامة العقيدة وصحة المنهج وصفاء الفكر وحفظ العقل واتقاء الشبهات فضلاً عن الوقوع في دائرة المحرمات الفكرية، فنص على وجوب التمسك بالكتاب والسنة عصمة من الضلال والانحراف الفكري، وحذّر من البدع والمحدثات في الدين «فكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار»، وهذا وجه آخر من وجوه الأمن الفكري محل الحديث، كما حذّر من الغلو في الدين «إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو»، ليس هذا فحسب بل جاء النص صراحة على أن هذا الدين مبني على الوسطية والتيسير ?طه مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى? «يسروا ولا تعسروا» «ما خيّر رسول الله بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه...»، وفي ذات الوقت جاء الأمر بطاعة ولي الأمر، وسؤال أهل الذكر ومجالسة العلماء وأخذ الدين عنهم، ولزوم جماعة المسلمين وهذه الأمور الثلاثة - الطاعة والسؤال واللزوم - لها تأثير كبير في حفظ فكر الإنسان وعدم ركوبه موجة التطرف والانحراف. وفوق هذا وذاك، ولخطورة الأمر، ولما يفضي إليه الانحراف الفكري من غلو وإرهاب وهدم، ولكونه مخالفة صريحة للدين الإسلامي وشريعته السمحة وتعاليمه السامية وأخلاقه الفاضلة، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته إذا قام الليل كما تقول عائشة - رضي الله عنهما - بقوله: (اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)، هذا وهو المسدد من ربه الموحى إليه، الذي ?وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى? فكيف بغيره ممن تتقاذفهم الأفكار وتتلاعب بهم الأهواء في كل آن وعلى كل حال.
لقد جاءت الدراسات والأبحاث ذات الصلة بمفهوم الأمن الفكري تؤكد على ضرورة حماية فكر الإنسان وعقله وسلوكه من الانحراف في إطار الوسطية والاعتدال وما هم عليه علماء الأمة الثقاة. ومتى كان الإنسان معتدلاً في تفكيره متوازناً في تصرفاته متبعاً المنهج الوسطية غير مغال أو مجاف استطاع أن يكون منسجماً مع ذاته، متزناً في سلوكه، آمناً مطمئناً في يومه وغده. وقد أشار إلى هذا صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز آل سعود النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء، وزير الداخلية الرئيس الفخري لمجلس وزراء الداخلية العرب وذلك في الكلمة التي ألقاها أمام وزراء الداخلية العرب في اجتماعهم السابع والعشرين المنعقد بتونس مطلع ربيع الآخر هذا العام ومما جاء في ثنايا ما قال: «لذلك كان الانحراف الفكري من أهم المشكلات الفكرية والأمنية التي تعاني منها أمتنا عبر تاريخها الطويل وفي واقعها المعاصر، فخوارج اليوم هم امتداد لخوارج الأمس الذين قال عنهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (سيخرج قوم في آخر الزمان أحداث الأسنان.. سفهاء الأحلام..) أي أنهم جمعوا مع حداثة السن.. سفاهة العقل وضحالة التفكير.. وهو ما يؤكده فعل بعض من انحرف عن الجادة من أفراد مجتمعاتنا المسلمة والعربية.. وخرجوا على إجماع أمتهم وولاة أمرهم.. وكفروا المجتمعات المسلمة حكاما ومحكومين.. واستحلوا الدماء والأموال المعصومة.. وفتحوا جبهات على الأمة المسلمة تضعف قدراتها وتعين أعداءها عليها».
حفظ الله أمننا ووفق وسدد ولاة أمرنا وعلماءنا ومفكرينا وأعاننا على القيام برسالتنا الملقاة على عواتقنا نحن أبناء هذا الوطن المعطاء. وإلى لقاء والسلام.