إنَّ من المناسبات السعيدة, والأيام المجيدة الأيام الوطنية التي يجد المواطن فيها ضالته, فهي مصدر غني وثري لرفع مستوى الشعور بالمسؤولية الوطنية في أبناء الوطن, كيف لا وهي جوانب غريزية فطرية جبل الله البشر عليها, بل حتى العجماوات, تحن إلى أوطانها, وتسعد بالعيش فيها, وترى في توالي القطر ونزول الخيرات عليه مصدر سعادة, والإنسان الذي كرمه الله وامتن عليه بالعقل هو أولى بذلك وأحرى, ومن هنا فإن يوم السادس والعشرين من شهر جمادى الثانية يوم يذكرنا بإحدى هذه المناسبات, حيث بويع مليكنا المفدى, وإمامنا الفذ, خادم الحرمين الشريفين الملك- عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود خلفاً لأخيه الراحل خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز -رحمه الله وغفر له- لتكون هذه الحقبة امتداداً للولاية الشرعية, والاجتماع والألفة والتوحد الذي جمع الله به القلوب في أعظم وحدة عرفها التأريخ المعاصر على يد الملك المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن -طيب الله ثراه, وجعل الجنة مأواه-, إنه يوم يذكرنا بأعظم نعم الله علينا بعد نعمة الإسلام, نعمة القيام على أصل الأصول, وأساس القبول, توحيد الله جل وعلا, وتطبيق شرعه, وتحقيق مقاصد الشرع في خلافة هذه الأرض وعمارتها, تجسيداً لمعنى قول الله سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا}.. النور:(55).
والحق أن عهد مليكنا المفدى وولي أمرنا وحامي وحدتنا ورائد نهضتنا خادم الحرمين الشريفين امتن الله علينا فيه بنعم عظيمة, وحقق فيها -أيده الله- منجزات كبرى, لا تفي بها لغة الأرقام, ومن باب تناول هذه المنجزات بالصور الجزئية حتى لا يكون التعميم سبباً في غمط هذه المنجزات حقها فإنني بمناسبة مرور خمس سنوات على ذكرى البيعة أبدأ بالشكر لله والثناء عليه بما هو أهله أن وفق خادم الحرمين الشريفين لهذه المنجزات والمكتسبات التي سيخلد ذكرها التأريخ, ويعيش أثرها كل من شرف بالانتماء لهذا الوطن الكبير, والبلد الحبيب المملكة العربية السعودية, وأثني بالتهنئة الخالصة, وإعلان الامتنان والتقدير والإجلال والإكبار لهذا الملك العظيم الذي لا نملك إزاء عطاءاته إلا أن ندعو من أعماق قلوبنا بأن يحفظه الله, ويديم عليه نعمه, ويسبغ عليه فضله, ويكلأه برعايته, ونقول له: عشت ملكاً للقلوب, ولتهنك تلك المحبة والقبول الذي وضعه الله لك في قلوب رعيتك, ونسأل الله أن يكتب لك بها الخيرية الموعودة في قوله: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون لهم ويصلون لكم», والقبول الذي ورد في قول النبي: «إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل, فقال: إني أحب فلاناً فأحبه, قال: فيحبه جبريل, ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلاناً فأحبوه, فيحبه أهل السماء, قال: ثم يوضع له القبول في الأرض».
وإن أعظم منجز أرى شموليته لكل المنجزات تنمية العقول, والاستثمار الأمثل فيها من خلال تلك المشاريع الحضارية الكبرى التي تحققت في هذا العهد الميمون في مجال التعليم العالي, ولعل أبرز تلك المنجزات توالى إنشاء الجامعات في ربوع الوطن الغالي, وبموافقته -أيده الله- الأخيرة على إنشاء أربع جامعات جديدة في الدمام والخرج, وشقراء والمجمعة يصبح عدد الجامعات السعودية اثنتين وثلاثين جامعة, أربع وعشرون منها حكومية, وثماني جامعات أهلية, وبين الحكومية ست عشرة جامعة جديدة كلها في عهد الملك عبدالله بن عبدالعزيز, ألا ما أعظمه من منجز يستهدف بناء العقول, والارتقاء بكل عمل يستثمر الطاقات الشبابية لتلج أبواب الإبداع والتميز, إن هذا الكم الهائل مؤشر على الاهتمام بالمحاضن التربوية وتوسيع دائرة خدماتها ليجد كل مواطن فرصة في الالتحاق بهذه المنظومة, والإسهام في التنمية, وتزامن مع هذا التوسع في العدد رصد للميزانيات وتوجيهها لمرتكز التطور «البحث العلمي» ليكون هذا التطور الذي شهده التعليم العالي تطوراً نوعياً في ذاته وأدواته, أما في ذاته فذلك من خلال توفير البنى التحتية والمنشآت والمرافق المحققة للخدمات التعليمية والبحثية, فهناك مدن جامعية أنشئت وأخرى تحت الإنشاء, والعمل فيها يسير بخطى حثيثة, لاستكمال هذه المنشآت على أعلى وأرقى المواصفات لتكون معالم حضارية, وشواهد حيّة على التطور, أما النوعي فلا أدل على ذلك من التوجه نحو العالمية والريادة والمثالية, في العلوم التطبيقية والتقنية, وتقف شاهدًا على ذلك جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية, تلك المنارة العلمية, وقد أوضح المليك هدفه فيها بأن تكون كبيوت الحكمة التي أنشئت في أزمنة الخلفاء, وكذلك ما أمر به خادم الحرمين الشريفين -أيده الله- من إنشاء مدينة الملك عبدالله للطاقة الذرية والمتجددة, فإنشاء هذه المدينة سوف يكون له أثر على محاور متعددة, أولها إعداد طاقات وطنية متخصصة في مجال الطاقة الذرية والمتجددة من خلال العمل على اختيار الصفوة من خريجي هذا التخصص وابتعاثهم وصناعة عقولهم بالاحتكاك البحثي العالمي في أرقى الجامعات.
وهذا من حيث النوعية في ذات العلوم, أما في الأداء والأساليب فهذا توجه تسعى إليه كل الجامعات, فدعم المليك, ورعايته, وحرصه -أيده الله- على الارتقاء, والتطور شمل كل هذه الجوانب, ووجه -حفظه الله- برصد الميزانيات الضخمة لاستيعاب هذا التوسع المدروس, وتوفير الكوادر اللازمة لهذه النهضة الواعدة المرتقبة بإذن الله.
ولذا يعد برنامج خادم الحرمين الشريفين -أيده الله- للابتعاث الخارجي ترجمة صادقة لاهتمام المليك بالتطور النوعي في التعليم العالي, والأعداد التي أفادت من هذا البرنامج ينتظر منها أن تقود هذا التطور بما تلقته من خبرات, وبما أفادته من علوم تخدم هذه المرحلة بإذن الله.
إن مما يسجل لخادم الحرمين الشريفين ورؤيته العالمية, وتوجيهه ودعمه لمسيرة التعليم العالي كي يفيد من التجارب العالمية, من خلال الابتعاث كما سبق, وكذلك من خلال تواصل الجامعات السعودية مع الجامعات العالمية ذات السمعة العالية والخبرة الكافية, والإنجازات العلمية والبحثية, بهدف توطين الخبرة العالمية, والإفادة منها بما يحقق التنمية الشاملة المستدامة, وتحقيق الريادة العالمية السعودية التي تميز بذات الأبعاد العالمية مع خصوصيتها في قيامها على الأسس الشرعية, والثوابت الأساسية التي تجمع بين الأصالة والمعاصرة, والاستقامة والنهضة, وكل ذلك مؤشر على مدى نجاح الرؤية الملكية عندما أعلنها ملك الإنسانية استثمارًا للعقول البشرية, ونستشرف بها مستقبلاً عظيماً لمملكة الحب والوفاء والإنسانية أن يكون وطننا مقصداً للعالم, وأن يحتل الصدارة في كل شأن, وهذا ما سيتحقق في القريب بإذن الله. والله المسؤول أن يحفظ علينا ديننا وأمننا, وقيادتنا, وأن يجعل أعمالهم زاداً لهم إلى رضوان الله وجنته, إنه سميع مجيب.
مستشار معالي مدير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
والأستاذ المشارك في المعهد العالي للقضاء