لقاء : منيف خضير :
سنتان للبحث والدراسة قضاهما الباحث الأكاديمي طالب بن فداع الشريم، وكان قبلهما وبعدهما يتنقل في مجلس خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود حفظه الله بتصريح خطي منه - رعاه الله -؛ لإنجاز رسالة ماجستير عن (سياسة الباب المفتوح في المملكة العربية السعودية.. دراسة عن مجلس الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود). يقول الأستاذ طالب الشريم:
تقدمت برسالتي، وكنت أتحدث عن سياسة الباب المفتوح في المملكة العربية السعودية عموماً، وبعد أن أنهيت رسالتي عن مجلس خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله تحديداً تقدمت إلى مكتبة الملك عبدالعزيز العامة في الرياض لطباعة الرسالة بعد إجازتها، وبعد أن عرضوا الأمر على الملك حفظه الله رفض طباعة كتاب يتحدث عنه شخصياً، مؤكداً أن المكتبة لم تنشأ من أجله بل من أجل خدمة الإسلام والعروبة والمملكة العربية السعودية عموماً. ويضيف الباحث طالب الشريم قائلاً: إنَّ سيرة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز وإنجازاته ومبادراته واهتماماته بقضايا المواطنين، بل والمقيمين، وبالقضايا الخليجية والعربية والإسلامية، والدولية، هي منارات على طريق التقدُّم والازدهار والاستقرار في مهبط الوحي وموئل العروبة ومركز رئيس من مراكز العالم القديم والحديث.. وإن هذه «السيرة» ترسم صورة واضحة لرجل المواقف، ورجل المكارم والأخلاق، وتجسِّد الشهامة العربية لملك أكدت مواقفه أنه القائد الحكيم الذي يدافع عن الوطن والمواطنين في المحافل الدولية، الذي يؤكد أن المملكة العربية السعودية بلد الجميع دون استثناء أو تفرقة، وهذا يجسِّد حرصه على تأكيد سياسة الباب المفتوح في كل المجالات الإدارية التي تمثلها المؤسسات العامة للدولة.
آية كريمة ودعاء مأثور
ويضيف قائلاً عن مجلس الملك: وقد كتبتْ رولا خلف من ال»فايننشيال تايمز» مقالاً ترجمته الوطن ونشرته بتاريخ (26-6-2001م)، وهي تصف الجو العام للقائها بالملك عبدالله بن عبدالعزيز عندما كان ولياً للعهد، حيث قالت: «بين الفينة والأخرى ينظر (الأمير) إلى زاوية الغرفة حيث توجد لوحة باللغة العربية معلقة في برواز، بعد العشاء يقترب الأمير من اللوحة ويبدأ قراءة الدعاء المكتوب عليها: اللهم لا تجعلني طاغية يخافه الأبرياء ولا ضعيفاً يخشى الطغاة، اللهم أعني على قول الحق عند الأقوياء، وأعني على اجتناب الكذب لكسب ود الضعفاء. ويقطع الأمير قراءته ليسأل ضيوفه أليست هذه كلمات جميلة؟».
بل إنَّ هناك لوحة أخرى أشد وضوحاً، وأعمق دلالة على شخصية خادم الحرمين الشريفين، وهي دائماً معلقة في منتصف الجدار الذي يستند إليه مقعده في صدر مجلسه تحمل الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَة فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (6) سورة الحجرات، وهذه اللوحة يشاهدها كل من يحضر مجلسه، وهي في موقع واضح يستطيع أن يقرأها كلُّ من يدخل المجلس.
وإنَّ اللوحتين - لا شك - تعطيان دلالات عميقة على شخصية خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز الذي يتوخى الاقتداء بالسلف الصالح من قادة الأمة الإسلامية، الذين يحرصون على أن يكون العدل بين الناس هاجسهم، والجرأة في الحق ديدنهم، ونصرة المظلوم همهم، كما أن للوحتين - لا شك أيضا - إيحاءاتهما لمن يصلون إلى مجلسه ويتحدثون إليه في أمر؛ إذ يجب أن يكون الصدق رائدهم، والخوف من الله منهجهم.
ولقد أسس خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز علاقة مميزة مع أفراد شعبه، وتعامل معهم بصدق وصبر، وتحلَّى بالشفافية والوضوح، وفتح لهم قلبه؛ فبادلوه حباً بحب وولاء بولاء وصدقاً بصدق وعطاء بعطاء؛ ما عزز من التلاحم والالتفاف حول الوطن وقيادته من خلال تطبيق سياسة الباب المفتوح التي كانت نهج خادم الحرمين الشريفين، وطريقاً للتواصل بين المواطن والمسؤول.
يفتتح مجلسه بالقرآن الكريم
وعن الجوانب الشخصية التي يلمسها القريب منه يقول الشريم: من أهم الجوانب الشخصية في حياة هذا القائد هو الطابع الديني، فالقريب منه يعلم كم هو متمسك بكتاب الله - عز وجل -، يصدح القرآن في جوانب حياته الخاصة في منزله، في مجلسه، في مكتبه، واعتدنا أن نشاهده يفتتح مجلسه أثناء استقبالاته للجموع من المواطنين والضيوف بالقرآن الكريم تلاوة وشرحاً وتفسيراً، وهذا الأمر يصف الجانب الديني بوضوح، ونجده أيضا عند فراغ المصلين من صلاتهم يكون هو آخرهم؛ إذ يبقى عقب كل صلاة في مناجاةٍ لربه رافعًا يديه إلى السماء، وقد تمضي أكثر أرباع الساعة وهو على هذه الحال؛ فهو صادق مع الله تعالى - إن شاء الله - ويضع مخافة الله أمامه في الأمور كلها، وهو صادق مع نفسه التي يحملها دائماً على التوكل على الله، وعلى النزاهة والعدل، وعلى حب الخير، والإخلاص في العمل، والإحساس بالمسؤولية لما يخدم دينه ووطنه وأمته، إلى جانب ذلك فهو يحب الصدق، والرجل الصادق معه، خصوصاً في نقل المعلومة الدقيقة، حتى لو أخطأ فهو يحب أن يعترف الإنسان بخطئه ويعمل على تجاوزه، كما يكره الملك عبدالله الإنسان المتملق والمتزلف بالقول أو العمل، وفي المقابل يؤكد دائماً على كل من يعمل أن يهتم بعمله المكلف به، وترك الحديث عن الآخرين، أو التدخل في أعمالهم.
يحترم الآخرين
ويستطرد الشريم ويضيف: أما على المستوى الشخصي فهو رجل فارس وشجاع بمواقفه وأعماله التي لا تعدُّ ولا تحصى، وهو إنسان بسيط بتواضعه وقربه من الناس، وكرهه للبذخ، إلى جانب ذلك فهو رجل يحب الوسطية والاعتدال في أمور الدين والدنيا، وينبذ الغلو والتطرف، كذلك يتمتع الملك عبدالله بسمة الوفاء لشعبه أولاً، وللعاملين معه ثانياً؛ حيث دائماً ما يسأل عمن يعمل معه، ويسعى إلى تلمُّس مشكلاتهم ويحلها، حتى في سفرياته الخارجية دائماً ما يحرص على المرافقين له، ويسأل عن احتياجاتهم، ويسعى إلى راحتهم، ولو عرف أن أحداً من العاملين معه مَرِض يسأل عنه في الحال، ويهاتفه للاطمئنان عليه.. كما أنه يتذكر كثيراً مَنْ عمل معه، ويدعو للأموات منهم بالمغفرة والرحمة.
وعندما يطلب الملك من مواطنيه عدم تقبيل يده، وعدم مخاطبته بمولاي، ويتوجه للمواطنين والمسؤولين في الدولة بذلك، فإنما هذا تميز انفرد به، وهو سلوك ميز شخصيته وأكد ثقته العالية بنفسه وحفظه لكرامة مواطنيه والتزامه بالقيم الإسلامية.
وأبدى خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز رفضه التام والقاطع لتقبيل يده من قِبل المسؤولين أو المواطنين السعوديين وغيرهم؛ معتبراً ذلك التصرف دخيلاً على القيم والأخلاق، ولا تقبله النفس الحرة الشريفة. وقال الملك عبدالله في كلمة مخاطباً عدداً من الوفود الرسمية والقضاة والسفراء والمواطنين، استقبلهم بقصر السلام في جدة يوم السبت 10-9-2005م: «إن تقبيل اليد أمر دخيل على قيمنا وأخلاقنا، ولا تقبله النفس الحرة الشريفة، إلى جانب أنه يؤدي إلى الانحناء، وهو أمر مخالف لشرع الله، والمؤمن لا ينحني لغير الله الواحد الأحد؛ لذلك أعلن من مكاني هذا رفضي القاطع لهذا الأمر، وأسأل الجميع أن يعملوا ذلك ويمتنعوا عن تقبيل اليد إلا للوالدين برا بهما».
كما نهى الملك عبدالله بن عبدالعزيز خلال حفل شعبي أقامه أهالي المدينة المنورة خلال زيارته للمنطقة في 18-8-2005م عن مخاطبته بمفردة «يا مولاي»، مؤكداً أن المولى هو الله - عز وجل -. وبهذا فقد أكد على علاقته الإدارية مع المواطنين والمسؤولين، ووضع الضوابط لهذه العلاقة التي تؤكد شهامته وثقته بنفسه وتعاليه على سفاسف الأمور.
المواطن أولاً
ويرى الباحث الأكاديمي طالب الشريم أن من أول اهتمامات الملك عبدالله بن عبدالعزيز تلمُّس احتياجات المواطنين ودراسة أحوالهم عن كثب، مجسداً العلاقة الإنسانية والإدارية التي تربطه بشعبه؛ تأكيداً للنهج الإسلامي في إدارة الدولة، ويقول: كانت زياراته المتواصلة لعدد من مناطق ومدن ومحافظات ومراكز وأسواق وبيوت المواطنين؛ حيث استُقبل من قِبل شعبه استقبالا يفوق الوصف والتعبير ويبرز مدى ما يُكنّه أبناء هذا الوطن له من حب ومودة.
وكان يحرص في كل تلك الزيارات على أن يشارك أبناءه المواطنين مناسباتهم العلمية والشعبية والرياضية والاجتماعية والعامة، ويقضي بينهم رغم مشاغله وارتباطاته أوقاتًا طويلة يستمع إلى مطالبهم ويجيب عن أسئلتهم واستفساراتهم بصدر رحب وحكمة وروية بالغتين، مجسداً علاقة الاحترام والحب المتبادل، إلى جانب اهتمامه بتلبية احتياجاتهم والوقوف بجانبهم، كل تلك السجايا بيَّنت مدى بساطته وتواضعه وقربه إلى شعبه. ومن جوانب اهتمام الملك عبدالله بن عبدالعزيز بأبنائه المواطنين أن كلف مسؤولا ليتولى شؤون المواطنين، والنظر في شكاويهم ومتطلباتهم بشكل يومي، كما وجَّه باستقبال طلب أي مواطن وعرضه عليه، وهو متابع جيد للحالات الإنسانية للمواطنين المنشورة في الصحف اليومية، وكثيراً ما يوجِّه بمتابعتها بالتنسيق مع الجهات الحكومية المختصة.
لا تحرموني من لقاء شعبي
من أبرز الصفات التي يعرفها المقربون أن الملك حفظه الله يوجِّه الحراسات الأمنية بعدم منع المواطنين من الوصول إليه والاستماع إليهم مع خطر ذلك؛ حيث يقول طالب الشريم: قد تتغير الترتيبات الأمنية كثيراً في زياراته للأماكن العامة والأسواق، ويفاجأ المسؤولون عن الأمن بذلك لحظة ما يكون هناك مواطنون يرغبون في السلام عليه، أو التحدث معه، أو تقديم شكوى أو مساعدة؛ ففي هذه الظروف يصعب السيطرة على الموقف، وحين تأتي الظروف ويتم الحديث عن تلك المواقف وما صاحبها من تغيير في الترتيبات يقول «الحامي هو الله»، «لا تحرموني من رؤية شعبي، وثقتي فيهم أكبر من أن يقف حاجز أمامها».
ومن المواقف أيضا حين يسير موكب الملك عبدالله في الطريق إلى القصر أو الديوان ويتوقف فجأة، يعلم الجميع أن سبب التوقف ليس عطلاً في السيارة، وإنما عين الملك عبدالله شاهدت مواطناً (أو مواطنة) يحتاج المساعدة؛ فينادي بصوته، ويفتح النافذة، ويتحدث بعفوية مطلقة، ويسأل عن حاجته، ويوجه بتقديم المساعدة، ولا يكتفي بذلك؛ بل يسأل في اليوم التالي «ماذا عملتم بموضوع الرجل (أو المرأة) الذي قابلناه يوم أمس».. إن القريب من هذا القائد يعلم أن الملك عبدالله لم تغيره الأزمان؛ فهو يتصرف مع من حوله بثوابته الشخصية الإنسانية التي زرعها الله في قلبه؛ فهو يتعامل مع الجميع بالصراحة والوضوح، يكره الكذب والتملق والتزلف والنفاق والمبالغة في الحديث.
حب الفقراء والمساكين
وعن الأبعاد الإنسانية في شخصية الملك عبدالله بن عبدالعزيز يتواصل حديث الشريم قائلا: جولته في الأحياء الفقيرة بالعاصمة السعودية الرياض في شهر رمضان المبارك من العام 1423هـ لامس فيها جراح شريحة من شرائح المجتمع السعودي، وهذا بداية العلاج أن تشخص حالاتهم بحثاً وتقصياً. وقد صرح الملك عبدالله أثناء جولته بأنه لا يقوم بذلك رياء ولا سمعة، وإنما ليضع حداً لمعاناة الفقراء. والجانب الفكري في هذا البُعد الإنساني يتجسد في الجرأة بالاعتراف بالمشكلة، ومن ثم التعرُّف عليها والبحث فيها، ومنها إنشاء الأمير مؤسسة حملت وفاء وبراً بوالديه، كما تنفع المجتمع واستقراره، فجاءت مؤسسة الملك عبدالله لوالديه للإسكان التنموي لتشمل برعايتها شريحة لا تجد مسكناً يعينها على الاستقرار وإنشاء بيئة صالحة تنفع الوطن.
ويتبين جلياً مدى الحس العربي والإسلامي الذي يتمتع به الملك عبدالله بن عبدالعزيز في الموقف الآتي: في زيارته لواشنطن عام 1998م حينما كان ولياً للعهد، وعند وضع البيان الختامي، رفض توقيع البيان ما لم يتضمن ذكر القدس صراحة، وتأخر البيان ثلاثين ساعة ليخرج البيان الختامي الموقع من الطرفين متضمناً الإشارة إلى القدس صراحة.
وقد ترك هذا الأسلوب أثره وانطباعه لدى القادة والزعماء الذين يتفاوضون معه؛ فهو معروف في الأوساط السياسية العربية والدولية بجديته وصراحته، وبامتلاكه لأسلوبه الخاص في النفاذ إلى جوهر القضايا، وتسمية الأشياء بأسمائها، والتركيز على الحلول في العمق، بدلا من أسلوب المسكنات والمهدئات التي يرفض نهجها.
مسيرة إصلاح
ويختم الباحث الأكاديمي الأستاذ طالب الشريم حديثه عن خادم الحرمين الشريفين قائلاً: على مدى عقود من الزمن بقيت صورة الزعماء العرب محاطة بكثير من الهالة والرسميات، لكن الملك عبدالله بن عبدالعزيز فاجأ كثيرين بأسلوب مختلف يكسر الحاجز بين السلطة والمواطن، ونمى الشعور بضرورة البناء بين قوائم المجتمع؛ فنزل إلى الأسواق، وتحدَّث إلى الناس، وأكل معهم في المطاعم العامة، ودخل بيوت الفقراء، واستمع إليهم في صورة لم يتعوَّد عليها الإنسان العربي.
وفي خطوة لافتة وحازمة للتصويب والإصلاح، تفعيلاً لمسيرة النمو المتواصل، عبَّر الملك عبدالله بن عبدالعزيز عن إرادته عندما كان ولياً للعهد في 24 ذي القعدة 1421هـ (الموافق 19 فبراير 2001م)، بملاحظات وتوجيهات موجهة إلى أجهزة ودوائر الدولة؛ لتفعيل الأداء وتحمُّل المسؤولية دون تقصير، وضرورة سرعة تنفيذ ما يكفل حقوق المواطنين ويصونها، وسرعة إنجاز المهام التي أنيطت إلى اللجان، وعدم ركن المعاملات؛ بل ضرورة تسييرها بعد استيفاء متطلباتها، وضرورة التحقيق لمعرفة أي متسبب في إعاقة الأوامر.. وكان لافتاً تأكيده بحزم أن إهمال هذه الملاحظات «يعتبر إضراراً بسمعة الدولة ومصالح الوطن وحقوق المواطنين، وهو أمر لا يرضي الله، ولا نسمح به، ولا نقبل الأعذار حوله؛ فكل مسؤول مؤتمن، وكل مؤتمن محاسب؛ فدولة قامت على إنفاذ شرع الله لا يصونها من العبث إلا العدل وإحقاقه، والإخلاص وإتمامه».