للكاتب الصحفي في الشأن العام دور بناء في مسيرة التطوير والتنمية يجب أن يكون أميناً في تأديته، فهو مطالب بالتعبير عما يعتقد أنه رأي عام حول موضوع أو مسألة تهم الناس، فيبين ويناقش وينتقد ويفند ويعترض ويقترح متمثلاً المصلحة العامة، وهو بذلك قد يستثير حفائظ أو يكتسب إعجاب، ولكن على الكاتب أن لا يستمرئ النقد فقط، فالنقد سهل المؤنة كما يقال في المثل «عين الناقد بصيرة» وعليه أن يبحث عن المناظر الأخرى الجميلة في فسيفساء الخدمة العامة، فيبرزها ويبين أثرها ويحمد أهلها، فالشكر للمحسن واجب إن لم يكن للتمجيد، فليكن للاستقداء، فما أحوجنا لنماذج قيادية يقتدى بهم وتمتثل طرقهم وجهودهم وتعمم نجاحاتهم.
في هذا المقال سأتكلم عن مؤسستين عامتين لهما مساس مباشر بحاجات الناس، وكلاهما تباين الناس في التعبير عن مدى الرضا عما يقدمانه من خدمات، وعندما عزمت طرق هذا الموضوع، نازعتني نفسي أن أفرد لكل من المؤسستين مقالاً مختصاً، فكلاهما أحق بأن يبين للناس دورهما وتحدياتهما وقدراتهما بصورة مفصلة، ولكن بدا لي أن أُجمل ذلك بمقال واحد حتى أعزز ما أريد تبيينه بصورة مستثيرة للتفكير، فهيئة الهلال الأحمرالسعودي ظفرت منذ فترة بقائد جاءها من خارج النطاق الصحي، وجاء وحقيبته مليئة بالملاحظات والطموحات وكثير من الأصرار، ومؤسسة البريد السعودي هي الأخرى منذ ما يزيد عن (7) سنوات نالت حظها في قيادة حسنة، حيث أتاها من خارج الإطار الذي كان يحوي مخضرمي البرق والبريد والهاتف. لذا فالرجلان أتيا وهما خاليا المسؤولية من تبعات ماضي أي من الجهازين اللذين لم يكونا من حيث الخدمة والدور عند الطموح العام.
كان لي فرصة أن أجتمع بثلاثة من التنفيذيين في هيئة الهلال الأحمر السعودي، ومع أني التقيت مع هؤلاء التنفيذيين كل على حدة وفي ظروف مختلفة، إلا أن الحديث كان دائماً يدور حول ما كان وسوف يكون للهلال الأحمر, فجميعهم مأخوذون بالأصرار والحزم الذي يبديه صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن عبدالله رئيس هيئة الهلال الأحمر السعودي لإحداث نقلة نوعية للهلال الأحمر السعودي، وتحفزه المستمر لمعالجة جوانب النقص، سواء كانت في الكفاءات البشرية أو القدرات الفنية، والأمير فيصل كما بدا لي من تلك الأحاديث يتبنى إستراتيجية تغيير طويلة المدى لا تضع في الاعتبار النجاحات السريعة (Quick Success ) والتي عادة ما ينصح بها مستشارو الإدارة للمديرين الجدد لاكتساب الثقة، فعندما تولى الأمير فيصل مسؤوليات الهلال الأحمر، كان يدرك أن هناك عدم رضا عن خدمات الهلال الأحمر، ويعلم أن هذا يخص جانباً من جوانب عمل الهلال الأحمر, وهو الخدمات الإسعافية، فهي الخدمة التي يراها الناس وتمس حياتهم بصورة مباشرة، ولكن للهلال الأحمر أدواراً أخرى لا يراها الناس، لذا لم يباشر في التركيز على الخدمات الإسعافية دون غيرها ليكتسب الإعجاب، لقد رأى أن الهيئة برمتها وحدة متكاملة بحاجة إلى تحديث وتحسين متواز في جميع قطاعاتها، ومن خلال إستراتيجية تغيير مرسومة، وبادر لتكوين الفرق التي سيعتمد عليها في تنفيذ تلك الإستراتيجية بصمت وتروٍّ، فلم يجلب معه جحافل المستشارين كما يعمد له بعض من يعين في مسؤوليات كهذه، بل أراد أن يباشر ذلك بنفسه، وأن ينتقي ممن يجد فيه الطموح والقدرة والشراكة في الرؤية من موظفي الهلال الأحمر قبل أن يستجلب أحداً من خارج الهيئة، ثم يعمد لبناء توافق بين مكونات ذلك الفريق حول فهم واقع الحال من التحديات والإمكانات والحماس للتغيير وإدراك متطلبات ذلك التغيير والإصرار على التغلب على العقبات مهما كانت، هذا النموذج من المسؤولين القياديين هو ما تحتاجه عملية التنمية؛ فالقائد الإستراتيجي الروي المطمئن لمنهجه هو من يحدث التغيير وهو من يكون في وسط الآلة التي تدير ذلك التغيير.
هيئة البريد السعودي كانت مثالاً للمؤسسة البيروقراطية التقليدية فهي من أقدم الخدمات العامة التي أسست في المملكة، وحيث تطلبت عملية التنمية وجود نظام ينقل المواد البريدية والطرود بكميات هائلة وإيصالها لعناوين محددة وبسرعة مناسبة إلا أن البريد السعودي لم يتمكن من التعامل مع تلك الضغوط بالقدر الكافي فتراكمت الشكاوي وتدهورت الثقة بالبريد وبات الناس يبحثون عن البدائل، فازدهرت تجارة نقل الطرود والتوصيل وكل ما كان يمكن للبريد أن يقوم به. كان الناس ينتظرون تحول البريد لواقع جديد أو تخليه عن دوره لغيره من المؤسسات والشركات التي باتت تعيش على تخلفه عن ذلك الدور، وعندما تولى معالي الدكتور/ محمد بنتن وهو أستاذ التقنية القادم من الوسط الأكاديمي، لم يحدث تعيينه صدى يذكر، وهذا ربما ما كان يحتاجه الدكتور محمد ليكون خالياً من ضغوط تحقيق نجاح سريع، فتروى فيما يجب أن يحدثه من تغيير ونظر لعملية التغيير نظرة إستراتيجية، فمتطلبات التطوير عديدة ومجالاته متنوعة، ولكن لابد من بداية، فكانت في تنظيم العناوين البريدية، وتلتها إنجازات أخرى حتى اطمأن لأداء جهازه ليقول في مقابلة صحفية إنه «يتحدى من يدعي بتأخر أو ضياع مادة بريدية لدى البريد السعودي». أنا شخصياً أشيد بتحديه وأثق بظنه، فمن خلال تجربتي مع خدمات البريد الممتاز، وهو أحد القطاعات التي نالت حظها من التنظيم والتطوير، أستطيع أن أجزم بقدرة البريد على استعادة الدور الذي اُنتزع منه، فالبريد الممتاز اليوم يضاهي أفضل شركات نقل الوثائق والطرود من حيث السرعة والثقة والتكلفة وفوق ذلك أكثرها توظيفاً للمواطن السعودي، فهو يستقطب ويدرب، في حين يعتمد منافسوه على عناصر أجنبية وأنظمة أجنبية وإدارة أجنبية في معظم الأحوال.
إن هدفي من هذا المقال هو عرض نموذجين للقيادة الفذة في الخدمة العامة، المشترك بينهما، كلاهما أتى لمؤسسته من خارجها ومن خارج صناعتها، وكلاهما تروى في تحقيق إنجاز مدوي سريع، وكلاهما بحث في عناصر المؤسسة التي قدم لها عن شركاء في الرؤية ولم يجلب معه طواقم تغيير خارجية، وكلاهما بعث روح التغيير من داخل المؤسسة، وكلاهما أبدى فهماً عميقاً للدور الذي يجب أن تقوم به مؤسسته، نحن بحاجة لنماذج قيادية لديها التطلعية والإصرار والتحفز لإنجاز الرؤية مثل صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن عبدالله ونحن بحاجة لنماذج أخرى مثل معالي الدكتور محمد بنتن لديهم الصبر والتحمل والتحدي لتحقيق النوعية من الخدمة العامة التي نستحقها كوطن وكمواطنين.
M9002M@GMAIL.COM