عندما ذهبت قبل عقود غابرة مع بعض الزملاء الأوائل لدراسة الطب في ألمانيا وجدنا أنفسنا ومعنا بعض الطلاب الأفارقة أمام عالم لم نكن نتخيل لضعف تعليمنا وخواء أدمغتنا أنه موجود. كان الفصلان الدراسيان التأسيسيان لدراسة الطب يقدمان بعض التطبيقات العملية البسيطة في مختبرات الفيزياء والكيمياء والأحياء والنبات.
نحن وإخواننا في الجهل الطلاب الأفارقة كنا نشاهد الزملاء الألمان والطليان والهنود والإيرانيين واللاتينيين وغيرهم يتعاملون مع الملاقط والدوارق والسحاحات والعناصر والمركبات والمشارط والمجاهر ويدونون ملاحظاتهم ويراجعون النتائج مع المشرفين الألمان بثقة وسلاسة كنا نستغرب من أين حصلوا عليها.
أما نحن معشر المبتعثين السعوديين وكذلك إخواننا مبتعثو القارة الأفريقية فقد بقينا مشدوهين مصفري الوجوه لأسابيع طويلة نكتفي بالتفرج من بعيد بسبب الرهاب الشديد من ملامسة تلك الأواني الزجاجية والملاقط والأحماض والقلويات؛ لأننا لم نشاهد مثلها من قبل ولا في الخيال وكانت بالنسبة لمداركنا من العوالم السحرية.
أخيراً أدرك الأساتذة الألمان أننا غرباء تماماً على ما يسمى بالتعامل العلمي مع المادة فرتبوا لنا تسهيلات خاصة تبدأ بألف باء التطبيق العملي لأبسط قواعد العلوم.
لم يستغرق الوقت بعد ذلك طويلاً حتى لحقنا بالقافلة وتخلصنا من الرهاب العلمي التطبيقي وأصبحنا مثل الآخرين.
من تلك التجربة والذكرى انطلق اليوم لأحاول الإدلاء برأيي المتواضع في بعض نواقص التعليم في مدارسنا.
إنني لا أجادل في أن المناهج العلمية في مدارسنا الثانوية تقدم كماً لا بأس به من المعلومات النظرية في الفيزياء والكيمياء والرياضيات وعلوم الكائنات الحية.
هذه المعلومات كافية تماماً للتأسيس العلمي في المرحلة الثانوية، لكن المشكلة هي أنها تبدأ نظرية وتستمر نظرية وتنتهي نظرية أيضاً.
المؤكد أن التطبيق العملي الميداني، أي في المدارس لأساسيات الفيزياء في قوانين الطاقة والكهرباء وأنواع القوى والحركة والشغل وعمل الروافع وقوى الجاذبية إلى آخر المعلومات النظرية في كتب المناهج الدراسية..
أكرر القول أن التطبيق العملي لا يتماشى ولو عن بعد معقول مع جودة المعلومات الأساسية النظرية.
السبب في ذلك سببان، الأول: هو عدم توفر المستلزمات (يعني العدة) للتطبيق على بساطتها وسهولة توفيرها، والثاني: هو احتمال انعدام القدرة والخبرة لدى مدرس المادة العلمية للقيام بالتطبيق التوضيحي أمام طلابه، لأنه هو نفسه لم يتعلم ذلك من أستاذه أيام كان على مقاعد الدراسة، وفاقد الشيء لا يعطيه.
قد يعتقد بعض القراء البعيدين عن المجالات العلمية أن المطالبة بتوفير مستلزمات التطبيق العملي في المدارس ينطلق من خيال جامح لكنه ليس كذلك، فهو أمر بسيط ومنخفض التكاليف وعظيم المردود، علاوة على أنه مطبق بالفعل في مدارس دول لا تملك كسراً عشرياً من إمكانياتنا المادية.
أظننا متفقين على أن المحبط في طريقة التعليم الحالية هو أن الطالب يدخل في المرحلة الثانوية بملابس وأياد نظيفة ويخرج منها بعد ثلاث سنوات بنفس الدرجة من النظافة؛ لأنه لم يلمس آلة بسيطة واحدة ولم يقم بتحضير مركب كيميائي بسيط واحد طيلة ثلاث سنوات ولم يدون ملاحظة ذاتية واحدة.
يعد هذا النوع من التعليم قطعاً عديم الفائدة وبه لن نستطيع إيجاد أرضية علمية حقيقية ما لم نشاهد طلابنا يومياً وهم ملطخون بالزيوت والشحوم تفوح منهم رائحة الآلات لأنهم يجربون ما يقرؤونه في الكتاب على الواقع.
لكن كيف؟.
دعونا فقط نقلد ما يقدمه الهنود والملاويون والصينيون وغيرهم من النمور الجديدة لطلابهم.
أضيفوا ورشة ومختبراً صغيرين إلى كل مدرسة ثانوية.
ولنبدأ أولاً بالمدرسين فننظم لهم دورات تدريبية مكثفة لأنهم يشبهون في قدراتهم التطبيقية طلاب بعثاتنا الأوائل أولئك الذين عرضت لكم ورطتهم الدراسية في البدايات.