تَكمِلةً لمقالة الأسبوع الماضي (البطالة في مواجهة الصحافة)، أستعرض اليوم بعض عوامل النجاح التي ساعدت شركتي أرامكو السعودية، وسابك في توظيف السعوديين، في وقتٍ وقف فيه القطاع الخاص عاجزاً عن تكرار التجربة، والمساهمة في القضاء على مُعضلة البطالة.
بدأت أرامكو السعودية من الصفر، واحتاجت إلى الأيدي العاملة التي تمكنها من التوسع في عملياتها الاستكشافية والإنتاجية. اعتمدت أرامكو على طاقمها الأمريكي في إدارة الشركة، وبدأت في استقطاب السعوديين، وغالبيتهم من الأميين. أمية السعوديين العلمية لم تحرمهم من اكتساب المواهب الخاصة، والقدرة على التعلم السريع. فالبدوي البسيط كان بارعا في معرفة الدروب، ونوعية التربة والصخور التي اعتمد عليها الجيولوجيون كثيرا في اكتشاف النفط. أما سكان الساحل فكانوا خبراء في ارتياد البحر، ومعرفة المواقع والاتجاهات، والممرات المائية العميقة والضحلة ما جعلهم أكثر توافقا مع متطلبات التصدير، النقل البحري، توجيه السفن، وقيادتها أيضا. وبين أولئك برع أصحاب الحرف اليدوية، والطاقات الإدارية، ومفكرون فتحت لهم أرامكو أبواب العلم والمعرفة ففجرت طاقاتهم وإبداعاتهم الفكرية، وقادتهم نحو التطور الوظيفي.
عملت أرامكو على تدريب موظفيها، وتعليمهم، وعمدت إلى تفريغهم دوريا لحضور فصول دراسية نظامية توفرها الشركة. نجح الكثير من الأميين في التعلم ومواصلة تحصيلهم الجامعي، ونجح غالبية الموظفين في تطوير مهاراتهم اللغوية وقدراتهم العملية ما ساعدهم في الحصول على الترقيات والعلاوات المميزة. أتاحت أرامكو لموظفيها نظام ادخار مثالي، جمعت فيه بين التوفير والاستثمار، ووفرت لهم القروض العقارية، والبرامج التقاعدية؛ وعمدت إلى توفير البيئة المثالية المتكاملة التي ساعدت الموظفين على الإنتاج والاستقرار والاطمئنان للمستقبل. نجحت أرامكو في خلق بيئة مؤسسية إنتاجية تعليمية استثمارية مشتركة، فجاءت النتائج مبهرة للجميع. أجيال من السعوديين هم خريجو أرامكو السعودية دخلوها أميين وخرجوا منها مثقفين، يحملون درجات علمية. اهتمت أرامكو ببناء الإنسان، الركيزة الأهم في منظومة الاقتصاد والمجتمع. يحسب لأرامكو السعودية تخريجها أجيالا من الموظفين المهرة والمتعلمين الأكفاء، واعتمادها عليهم في قطاعات الإدارة والإنتاج. يمكن أن يكون معالي المهندس علي النعيمي، وزير البترول، أنموذجا لدور أرامكو الفاعل في بناء الإنسان. بدأ الوزير النعيمي موظفا بسيطا في العام 1948 وتابع تحصيله العلمي حتى حصل على درجة الماجستير في الهيدرولوجيا. نجح الموظف البسيط في أن يكون أول رئيس سعودي لشركة أرامكو العام 1984، ثم وزيرا للبترول والثروة المعدنية. الثقافة المؤسسية، والكفاءة الإدارية، والاستثمار في القوى العاملة بغض النظر عن مؤهلاتهم العلمية، إضافة إلى التدريب، التعليم، والتوجيه هو ما ميز أرامكو السعودية وحقق لها النجاح في مجال توظيف السعوديين وتطويرهم.
يرجع الفضل، بعد الله، لشركة سابك في تطوير صناعة البتروكيماويات السعودية وبناء قطاع صناعي متكامل لم يكن ليُنشأ لولا وجودها، وقيام الهيئة الملكية للجبيل وينبع، شريك النجاح الإستراتيجي. لم تهتم سابك بتطوير صناعة البتروكيماويات فحسب، بل اهتمت أيضا بتطوير الإنسان، واعتمدت على كوادرها الوطنية الذين أثبتوا أنهم أهل للثقة وعلى مستوى عال من الكفاءة و المهنية اللتين أهلتهم للعمل في مراكز متقدمة حول العالم. استثمرت سابك في موظفيها ونجحت في خلق كتيبة مدربة من السعوديين الأكفاء الذين وضعوا بصماتهم في معظم المشروعات البتروكيماوية الحديثة. اهتمت سابك منذ إنشائها بتوظيف السعوديين وتدريبهم، اعتمدت في البداية على خريجي الثانوية العامة وابتعثتهم للخارج فأصبحوا النواة الأولى لجيل من العاملين السعوديين المهرة. ثم اقتنصت خريجي الجامعات وأسهمت في تدريبهم وتأهيلهم التأهيل الوظيفي الأمثل الذي أهله بعضهم لتسلم وظائف قيادية متقدمة؛ التدرج الوظيفي المبني على الكفاءة والمقدرة أوصل بعضهم إلى رئاسة شركات تابعة للشركة الأم «سابك». جيل آخر من الشباب السعودي الطموح تسرب من سابك نحو الشركات الوطنية البتروكيماوية الحديثة، قد يكون التسرب مقلقا في بعض الأحيان، إلا أن التسرب الداعم لقطاعات الإنتاج الوطنية يصب دائما في مصلحة الوطن. رؤساء تنفيذيون وخبراء في الإدارة وعمليات الإنتاج، ومخترعون من السعوديين كانت سابك محطتهم الأولى التي انطلقوا منها نحو التميز والإبداع. سابك لم تكتفِ بالتوظيف والتدريب بل ساهمت في دعم الشركات الأخرى بموظفيها، وإن لم تسعى لذلك أو تفرح به!. إستراتيجية السعودة تعني الكثير للشركات الملتزمة، وهي غالبا ما تصل إليه، إذا ما أرادت، دون الحاجة لرقابة الرقيب، أو برامج التحفيز الرسمية.
ريادة شركتي أرامكو وسابك ربما تعرضت لبعض الانتقادات مؤخرا لأسباب مرتبطة بعقود التشغيل، وتوفير القوى العاملة من خلال شركات مستقلة تعمد إلى تفضيل العمالة المستقدمة على السعوديين لأسباب ربحية صرفة. نسب السعودة المعلنة قد لا تكون دقيقة في بعض جوانبها، بسبب اعتماد الشركتين على إشغال وظائف ليست بالقليلة بموظفين مُستأجرين من مؤسسات وشركات تشغيل خارجية لا تلتزم بإستراتيجية السعودة. ومع ذلك ما تزال الشركتان تحتفظان بمركز الريادة في توظيف السعوديين بمرتبات ومزايا عالية.
تجربة أرامكو السعودية وسابك يمكن تعميمها على القطاع الخاص والاستفادة منها في خطط التأهيل، التدريب، والتوظيف، والقضاء على البطالة المُحاصرة بأعداد مهولة من الوظائف التي يشغلها غير السعوديين، في تحدٍ سافر للأنظمة، برامج الإحلال، خطط السعودة، والمصلحة الوطنية. نجحت أرامكو وسابك حين فتحتا أبواب التوظيف للسعوديين وفق برامج تأهيلية وتدريبية تساعد الموظف على تحمل أعباء الوظيفة، ومن ثم الإبداع وتفجير الطاقات التي تدفعه إلى أعلى السلم الوظيفي؛ وفشل الآخرون، وربما سابك وأرامكو في بعض مراحلهما المتأخرة، بالمساهمة في حل معضلة البطالة حين اشترطوا في طالبي الوظائف العادية من السعوديين توفر معايير ومواصفات خاصة أقرب إلى التعسفية منها إلى الحاجة؛ وحين ركزوا على الربحية، وخفض النفقات، وتقليص الوظائف، وخفض الرواتب، وتفضيل القوى العاملة الأجنبية، وتغليب مصالحهم الخاصة الضيقة على المصالح الوطنية الشاملة.
****
F.ALBUAINAIN@HOTMAIL.COM