Al Jazirah NewsPaper Tuesday  01/06/2010 G Issue 13760
الثلاثاء 18 جمادىالآخرة 1431   العدد  13760
 
خطورة التأويل المفهومي للمصطلحات..!
د. حسن بن فهد الهويمل

 

لم أعد مهتماً بشيء قدرَ اهتمامي بنظرية (التأويل)؛ لأنها أصبحت مناطاً لكل مَن أراد إجهاضَ النصوص، وتمييعَ الأحكام. وحين شكَّلت التشريعات عقبة أمام الواقعيات هرع المستثقلون

للمكاره التي حُفت بها الجنة إلى التأويل والتفكيك؛ ليحمّلوا النص إكراهاً دلالات فرضية قد تمُت إليه بصلة، ولو من طرف خفيّ.

وتنشيط هذا الاهتمام عندي معزز باهتمامين متضارعين:

- اهتمام ب(علم اللغة) وفقهها وفلسفتها من حيث هي موضوع، لا أداة توصيل، وبوصفها منطقية التكوين، احتمالية الدلالة.

- اهتمام ب(علم الكلام) من حيث هو قضية أزلية منذ أن قال موسى عليه السلام: (ربِّ أرني أنظرْ إليك)، ومن قبله إبراهيم: (ربِّ أرني كيفَ تُحيي الموتى). ولقد كنت، ولمَّا أزل، حفياً بكل الخطابات والمناهج الطريف منها والتليد؛ سعياً وراء تحرير مسائل اللغة وعلم الكلام. والتأويل يتعاظم من هذين المصدرين: اللغة وعلم الكلام؛ حتى لقد احتدمت مشاعر شيخ الإسلام (ابن تيمية)؛ فأنكر المجاز في اللغة، فضلاً عن أن يكون في القرآن. والحق أنه كائن بهما جميعاً بضوابطه فيما يتعلق بالقرآن الكريم. ولقد فصّلت موقفي عن المجاز في القرآن في أكثر من بحث، ولا أجد مجالاً للتكرار.

كما أنني لمَّا أزل أتيح لأي نِحلة أو مِلة الحضور الجدلي بين يدي عبر كتبها أو أناسِيِّها شريطة ألا يفسد هذا الجدلَ عاطفةٌ جياشةٌ أو تعصبٌ أعمى.

ورهاني أبداً على النص بوصفه دليلاً برهانياً لا عرفاناً ملّياً، ومن خلال أوضاعه الأربعة عند الأصوليين:

- قطعية الدلالة والثبوت.

- قطعية الدلالة واحتمالية الثبوت.

- قطعية الثبوت واحتمالية الدلالة.

- واحتمالية الدلالة والثبوت.

وعلى العقل وقدراته وتوخيه البحث عن الحق بوصفه ضالّة المؤمن العقل المستشرف المحاكم لآلياته وتصوراته، ولربما يثور بيني وبين طائفة من العلمانيين أو الحداثويين أو الإسلامويين أو الطائفيين أو غير أولئك من المفكرين المستقلين، جدل عنيف حول الجزئيات أو الكليات ثم لا أجد حرجاً من الإصغاء لهم والتأمل في مقولاتهم، شريطة أن يستمعوا إليَّ بعد أن يُفيضوا بما لديهم كما أفاض مَن قبلهم، ولقد أفتح أمامهم أنفاقاً من الأمل حين أقول: متى استطعتم إقناعي عقلاً بما توجفون به فإنني لن أتردد في قبول ما تقطعون بصحته من رؤى أو تصورات، ولكم يسألني المجادل حين تلتطم أمواج زيوفه وحقائقه تحت سفوح قناعاتي:

- مَن تكون؟

فأقول بكل هدوء: أنا طائر يخفق بجناحي العقل والنص؛ بحثاً عن الحق بكل ثباته ونصاعته، وقد ينشط الخصم، وتبدو له ثغراتي وثغوري، حين ألوذ بالنص، وأعوذ ببرهانيته؛ ظناً منه أنه الأقدر - بعقلانيته وتأويليته أو تفويضيته - على احتوائي، متصوراً أن النص - بكل جموديته وحدّته وحديته وتخلفه عن اللحاق بالمذاهب الأخرى - لا يقدر ذووه على مواجهة العلم والعقل معاً، ولا سيما أن المذهب الاعتزالي يحيّد النص، ويطلق العنان للعقل.

والقارئ الحيادي لتاريخ المذاهب تأخذه قسمة ضيزى ارتهنت الذهنيات في كهوف مفاهيم ليست من الحق في شيء كالتقسيم العقلاني والنصوصي بحيث يقال: إن الاعتزالية مذهب عقلاني، وإن السلفية مذهب نصوصي يلغي العقل في حضرة النص، والتخطي من التاريخي إلى التثوير والتحليل والاستنتاج يؤكد أن هذا التقسيم شكلي لا تعضده الممارسة؛ ذلك أن السلفية عقلانية نصوصية، تدير العقل في فلك النص، ولا تدير النص في فلك العقل، واحترامها للنص بوصفه رسالة للمستهدف بالتبليغ لا يعني إلغاء العقل، ويكفي أن نبرهن (بابن تيمية) الذي فلّ الحديد بالحديد؛ لقد استوعب الفلسفة والمنطق، ولم يكن ضد شيء منها إلا حيث يكون التجاوز وتدنيس المقدس؛ فالسلفية على ضوء ذلك عقلانية نصوصية، فيما تكون الاعتزالية عقلانية لا نصوصية؛ لأنها تجهض النص بالتأويل الفاسد أو التعطيل العازم، وحين احتج العقلانيون بالتعارض، استطاع ابن تيمية أن يفض الاشتباك بين العقل والنقل بمحاولته الجبارة في درء التعارض.

وحين يتوسل الاعتزال بالتأويل للخلوص من سلطة النص يتعامل السلفيون مع التأويل ومع التفويض ومع العقل بمقدار، وتلك هي الوسطية التي يتغنى بها خطاب العصر.

ولأن العقول مُضغ تتشكل من المقروء والمُشاهد فإنها متفاوتة تفاوت البقاع التي يهمي عليها السحاب؛ فمنها أجادب تحفظ الماء، ومنها رياض غناء تنبت الكلأ، ومنها قيعان مسبخة، وهذا التفاوت السحيق لا تستطيع معه العقول ضبط المسيرة؛ ومن ثم لا بدَّ من نص محكم يكبح الجماح، ويضبط الإيقاع، ويحسم الخلاف بين تفاوت العقول ومستويات النصوص. وإشكالية النص كإشكالية العقل؛ إذ النصوص محكمة ومتشابهة؛ ومن هنا جاء التأويل والتفويض والمجاز والحقيقة والاجتهاد والإجماع دُولةً بين المختلفين، وبهذا الاضطراب العقلي والنصوصي تحققت مقولة: (ولا يزالون مختلفين)، ولا يعقل الاستخفاف بالاختلاف بعدما أصبح السلاح هو الملاذ لفض النزاع.

لقد عرف التاريخ الفكري تأويل الدلالة، واضطربت آراء العلماء حول الحدّ المقبول، والعلماء الذين مَوْضَعوا (التأويل)، واكتنفوه بدراساتهم التحليلية والتاريخية فوجئوا بتأويل أبعد أثراً، وأعمق خطورة؛ ذلكم هو (تأويل المفهوم)، والمسافة بين التأويلين:

- تأويل اللفظ.

- وتأويل المفهوم، تكاد تكون ضوئية.

والذين موضعوا العقل ك(الجابري) أو فلسفوا (البنية اللغوية) ك(أركون) وسائر البنيويين، والذين ظاهروا سلطة النص وأجهضوا سلطة المؤلف والمتلقي شغلتهم نظرية التأويل. وإذا كان (نصر حامد أبو زيد) قد اجترح مفهوم النص بوصفه منظومة تعبيرية فإن آخرين اجترحوا (مفهوم المصطلح) بوصفه مهيمناً على منطلقات المفكرين، ولربما يكون أحدث كتاب ل(محمد عمارة): (إزالة الشبهات عن معاني المصطلحات)، وهو من الدراسات التي تعد في إطار تأويلية المفاهيم، وهدف الكاتب أن يحسم اضطراب الخطابات المتناحرة، بيد أنه يضيف - من خلال رؤيته - اضطراباً جديداً؛ ذلك أن رؤيته لا تخلو من لوثات متعددة ارتبطت بتحولاته من العقلانية الاعتزالية إلى الماركسية المادية، ومنهما إلى اليسار الإسلامي.

وهذا الخطاب المضطرب متحفظ عليه عند طائفة من المُفكرين، وبخاصة السلفيين، وعلى الرغم من غزارة علمه، وتعدد مجالاته، وتنوّع إسهاماته، وأثره البالغ في الخطاب الإسلامي، فإن تقحّمه لهذه المهايع قد يؤدي إلى مزيد من الانشقاقات، وممارسته الجريئة داخلة في نطاق ما نخاف استفحاله، وهو تأويل المفاهيم.

لقد تناول بالتصحيح - على ضوء رؤيته - مائة وسبعة وأربعين مصطلحاً عربياً وغربياً، قديماً وحديثاً، وليست كلها ذات أهمية، ولكنه فرض رؤيته من خلالها، وقد لا يكون مصححاً للمفاهيم الخاطئة، ولكنه ناقد لذات المصطلح أو مؤرخ له؛ ففي حديثه عن مصطلح التأويل - على سبيل المثال - نجده يخلط بين تأويل الصفات وتأويل الأحكام، وينحي باللائمة على الذين يرونه القاعدة لا الاستثناء، غير أنه بتلك الرؤية يزيد الارتكاس في حمأة الخطأ المفهومي، وأخطر المصطلحات التي حاول تفكيكها ومعالجتها مصطلحات: (الحاكمية) و(الجهاد) و(حقوق الإنسان) و(الحرية) و(السلفية) و(الصحوة) و(العولمة) و(المتعة) و(الوهابية) و(ولاية الفقيه) و(تحرير المرأة)، وهو، وإن اختلف مع ذوي المصطلحات، إلا أنه يحاول المصالحة، محتفظاً برؤيته العقلية ورؤية اليسار الإسلامي، كما هو عند حسن حنفي وفهمي هويدي. والكتاب إضافة رؤيوية ذاتية، وليست معرفية حيادية، وعلى ضوء ذلك فإنه يمثل تحيزاً مذهبياً سيتولد عنه مزيد من الخلافات؛ فالسلفي والفلسفي والعلماني والليبرالي وكل منتمٍ إلى نِحلة سوف يمارس حقه في تأويل المفهوم، وستكون هناك إضافة جدل جديد لا يزيد المشهد أكثر من الترديد.

ولقد يكون من المفيد، ونحن نعرض لخطورة التأويل المفهومي للمصطلحات، أن نشير إلى تحولات في المفاهيم خطيرة ك(الجهاد) و(الحاكمية) و(الجاهلية) و(التكفير) و(الاختلاط) وسائر المفاهيم المتوترة إلى حد الغليان، ولا بدَّ - والحالة تلك - أن نصحّح المفاهيم، لا أن نلغي المصطلحات أو ننفيها؛ ف(التكفير) و(الجهاد) و(الحاكمية) و(الاختلاط) من القضايا الساخنة والمؤثرة على مسيرة الأمة، وليس الحل في إجهاض المفاهيم، ولكنه في إعادة النظر في مفهوم الرأي العام لها. ولو حسمت الاضطرابات لأمكن التغلب على إشكاليات وهمية لا تصمد أمام البحث المعرفي الجاد والبعيد عن الاستفزاز وصنع الذات على حساب المصلحة العامة.



 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد