مما يشق على النفس أنه في الوقت الذي يُنادى بالحوار على وجه العموم، ومع الجيل الصاعد بالذات على وجه الخصوص، بل وضرورة تدريبهم وتعويدهم عليه، نرى أن هذا الجيل يمتنع عن الحوار وبكل قوة، سواء في قاعات الدرس، أو مع الأسرة، أو مع المجتمع بعامة.
لقد أثار هذا الجيل قلق وحيرة وحنق الجميع، فهم قد ركبهم الصمت الكئيب بصفة مستمرة تجعل من وجودهم في أي مكان أو عدمه سيان، حتى ليُخال للرائي أنه جيل أجوف، خالي الوفاض من كل شيء، من الثقافة ومن العلم، بل ومن العواطف والأحاسيس أيضاً، حتى عمّهم الجمود والتبلد، فلا يلفت انتباههم أي أمر أو حدث مهما كان مثيراً.
قد يعود السبب.. بل قد تعود الأسباب إلى أمور كثيرة لا يستهان بها في عصر العولمة الذي لم يعد فيه شيء عجيب يثير الاهتمام، لأنهم قد ولدوا وهم يرون كل شيء أمامهم يتعدد ويتجدد ويتلون ويتقلب، فلم تعد الغرائب غرائب، ولا العجائب عجائب، فتوقفت حاسة الانفعال والدهشة لديهم.
حتى العاطفة التي كانت الجدات والأجداد والأمهات والآباء يتمنونها ويحلمون بيوم الزواج كي يصطادوها، نرى أن هذا الجيل لم يعد يشعر بقيمتها أو يحس بطعمها، لماذا؟!.. لأنه يصحو وينام على جميع (المبالغات العاطفية) التي تقذفها وسائل الإعلام المختلفة من أغانٍ وأفلام وقصص وروايات، حتى صاروا يرون العاطفة أضحت سهلت المنال، وليس هناك أيسر من الحصول عليها إلا سرعة افتقادها والتخلي عنها والتخلص من القديم والانتقال للجديد، فالبدائل متعددة ومتوفرة بكثرة، في جميع أنواع العلاقات الإنسانية، حتى في مجالات الزواج والصداقة.. بل والقرابة، فلماذا التعلق والثبات على العاطفة الأحادية؟!.
بيد أن هناك عاطفة قوية.. بل متضخمة بدرجة كبيرة لدى كثير من أبناء وبنات هذا الجيل، ألا وهي (عاطفة حب الذات).. بل عشقها لحد الإسراف المتعب لهم ولغيرهم، فأصبح الواحد أو الواحدة منهم يرفع نفسه لدرجة أكبر من مقامها، فلا يرى قدراً لمن هو أكبر منه مكانة أو عمراً أو علماً، بل يبالغ في تقدير ذاته لدرجة مسرفة في السلبية، مما يقود هؤلاء لكثير من الأمراض النفسية.
ومن ضمن تلك الأساليب اللافتة: (أسلوب الغموض)، عن طريق استخدام أساليب الصمت المطبق في جميع المناسبات بما فيها قاعات الدرس، لأنه أيسر وسيلة لإضفاء الهيبة وعدم إظهار العيوب المعرفية أو القصور الفكري أو الخواء الثقافي، مهما حاول الطرف الآخر إغراءهم بالنقاش حتى لو كان بسيطاً يسيراً.
وبلا شك فإن أكثر ما ساهم في جعل صفة الصمت يتبعها الغموض والفتور في شخصيات العديد من الجيل الصاعد أجهزة التواصل الآلي العديدة أمثال: الإنترنت، وألعاب الكمبيوتر، وأجهزة الجوال، ثم كان آخرها جهاز(البلاك بيري) الذي قضى على البقية الباقية من حلقة التواصل الإنساني.
وما زال المستقبل يبشرنا بالمزيد من طرق وأجهزة التواصل الإلكترونية التي ستلغي كثيراً من العلاقات الإنسانية حتى بين أبناء المنزل الواحد، الذي أضحى أهله يشكون القطيعة الروحية رغم القرب الجسدي..
فكيف نعيد روح الحوار والحياة والعلاقات البشرية الجميلة في هذا الزمن الآلي؟!