يواجه المسلمون تحديات كثيرة يأتي في مقدمتها اختلافهم في كيفية مواجهة المتغيرات الاجتماعية والعلمية في العصر الحديث، وغالباً ما يختصمون ويحتدم الحوار عن مشروعية المتغير الجديد، فقد أعاد الحوار حول مشروعية الاختلاط ذلك التحدي من جديد إلى الواجهة، لكن بصورة مغايرة لما تم الاختلاف فيه في السابق حول وسائل التقنية والاتصالات الحديثة، وحول مشروعية رؤية هلال رمضان من خلال التقنية الحديثة، فالاختلاط بين النساء والذكور كان ولا زال حالة قائمة ومقبولة منذ عقود في الأسواق والمستشفيات والمطارات، لكن مع ذلك ما زالوا يختلفون فيه إلى درجة الوصول إلى تناول مشروعية رضاعة الكبير كأحد الحلول لتشريع الاختلاط..
ما سمعناه عن مشروعية رضاع الكبير، يعد خروجاً عن حدود العقل الصريح، ويتطلب دراسة ورؤية جديدة لمنهج الفقه الإسلامي، الذي تشكلت بداياته في عصور ما بعد مرحلة النبوة والخلافة الراشدة، وقد اجتهد في تكوينه علماء من أجل إيجاد الحلول لمشكلات عصرهم، فالرسول عليه الصلاة والسلام لم يترك لنا فصولاً وبنوداً وأبواباً فقهية صالحة لكل زمان ومكان، لكن ترك لنا مقاصد وأصول شرعية ثابتة، من خلالها يتم تطوير الفصول والاجتهادات الفقهية حسب ظروف العصر، ولعل أكثر قضية واجهها المسلمون في تاريخهم كانت الرق، الذي يدخل في الحلال وكان له فقه وتشريعات، لكن عندما تطور الإنسان في القرن العشرين، وتنافى وجوده مع طبيعة الإنسان ووعيه، تم تحريمه ومنعه بصورة قطعية إذ لا يمكن أن يقبل العقل الإنساني مرة أخرى ملكية الإنسان لأخيه الإنسان، وتدخل هذه الرؤية ضمن منهج التطور في الفقه الإسلامي، فمقاصد الإسلام توافق تطور العقل وتلائم عصوره.
كذلك على فقهائنا محاولة فهم أبعاد تلك العقلية الفذة التي اتصف بها عمر بن الخطاب في الفقه والتشريع والتنظيم ثم النظر البعيد إلى المستقبل، ذلك أنَّ الخليفة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه، كان ذا عقلية تتمتع بالنظرة الكلية للأمور، إذ سُرعان ما يربط الجزئياتِ بالكلياتِ؛ ويردُّ الفروعَ إلى الأصول والضوابط العامة، وكانت اجتهاداته في بعض الأمور لها عظيم الأثر في عصره، فعمر رضي الله عنه أوقف إعمال وتطبيق حكم سهم المؤلفة قلوبهم عندما خلا الواقع من علة التأليف للقلوب، كما أوقف إعمال وتطبيق حد السرقة، في عام الرمادة، حيث عمت واشتدت المجاعة، كذلك اجتهاد عمر بن الخطاب في جعل الأرض المفتوحة بالعراق والشام ومصر وقفا على الأمة، ورفضه توزيع أربعة أخماسها على الجند الفاتحين، ضارباً المثل للفقهاء في فهم مقاصد الشريعة في العدل والحفاظ على ثروات الأمة.
قادت عقليته الفذه إلى فهم مقاصد الدين، ولم يتحوط بتوسيع دائرة الحرام، بل عمل على سد أبواب وفتح أخرى من أجل المصلحة العامة، وهو من المفترض أن يكون بمثابة القدوة في فهم منهج الفقه في الدين الإسلامي، وفي تطويرأحكام الفقه الإسلامي حسب مقاصد الشريعة، وعدم التعلق بحديث آحاد يخالف النص القرآني من أجل إقرار حكم يخالف الدين والعقل، وهذه أحد أهم محاور الاختلاف في تاريخ الفقه والتشريع الإسلامي، وتستوجب دراسة عميقة واجتهاد جديد من أجل تحديد موقف محدد من النصوص الآحاد التي تخالف النصوص القرآنية، وذلك لمنع مثل ذلك الخروج غير العقلاني الذي حدث في قضية رضاع الكبير، فقد كان أثرها السلبي كبيرا على الناس، حيث لا يمكن على الإطلاق أن يقبل إنسان مؤمن مثل هذا الحكم في هذا العصر.
كذلك يدخل في ذلك ما يطلق عليه بعمليات المضاربة والقروض الإسلامية وما يحدث في البنوك من بيع بالغبن لهذه القروض تحت عنوان أسلمة المعاملات الإسلامية، فقد أدخل الفهم السطحي للربا المواطنين في كوارث مادية، وإذا أدركنا أن أحد مقاصد الشريعة حفظ المال، وأن القصد من تحريم الربا منع الاستغلال والظلم، فعلى الفقهاء مراجعة ما يدور حول مشروعية القرض الإسلامي في ظروفها الحالية، إذ إن أثرها المادي يعد أكثر ظلماً وديناً من القرض الربوي في البنوك الأجنبية خارج الوطن!!