يقول عالمُ الاجتماع العراقي الشهير الدكتور علي الوردي في كتابه (مهزلة العقل البشري) عن المجتمع المتشبّث بالقديم : (يُشبه الإنسان الذي يربط إحدى قدميه إلى الأخرى فلا يقدر على السير. والرباط الاجتماعي مؤلف من التقاليد القديمة، فإذا ضعفت هذه التقاليد، وبدأ التنازع الفكري والاجتماعي، استطاع المجتمع أن يُحرّك قدميه ويسيرُ بهما في سبيل التطور الذي لا يقف عند حد. وإذا رأيت تنازعاً بين جبهتين متضادتين في مجتمع، فاعلم أن هاتين الجبهتين له بمثابة القدمين اللتين يمشي بهما).
|
هذا التوصيف الدقيق هو أس معادلة التنمية والتطور، ومن ثم التغيّر إلى الأفضل في أي مجتمع. المجتمعات الراكدة هي التي تكون الأعراف والتقاليد والعادات الموروثة فيها تشكل ما يشبه الأصفاد للإنسان مُقيَّد القدمين، وعندما تنكسر هذه الأصفاد يستطيع الإنسان أن يتحرّك وأن يسير بحرية، بل ويقفز إن احتاج؛ فيتحقق التغيّر إلى الأفضل. أولئك الذين يخافون من التغيير، ويصرون على إبقاء العادات والتقاليد البالية كما كانت عليه، بحجة الاستقرار الاجتماعي، هم - دون أن يشعروا ربما - يمنعون في النتيجة التطور الطبيعي، ويُصرون على إبقاء المجتمعات في حالة ركود. هذا الركود هو (علة) التنمية ، والعقبة الكأداء في طريق (التقدم) الذي هو دائماً وأبداً ، وكما يقول التاريخ، سبب بقاء الدول؛ فالمجتمعات (المتكلسة)، وغير القابلة للتطوّر، هي في النتيجة كالبيت الخَرِب، الذي أنهكه الزمن وعوامل التعرية، فلا يستطيع عملياً الصمود أمام رياح عاتية لا تهدأ إلا لتثور ثانية.
|
ومن يرصد الحراك الاجتماعي الذي نمر به في هذا العهد الزاهر، عهد الملك عبدالله – حفظه الله - يجدُ أنَّ هناك دعوات لا تكاد تخبو حتى ترتفع ثانية، تُحذر من الحوار أو الحراك الثقافي الذي نعيشه، على اعتبار أنه نوع من أنواعً (النزاع) المذموم؛ وتطالب بإعادة القيود والأغلال إلى قدمي المجتمع اللتين بهما يسير ويواكب متطلبات البقاء. نعم ، كل حركة تغيير اجتماعي ليست خيراً كلها، ولكنها قطعاً ليست شراً كلها أيضاً؛ فلا يمكن تصور أن هناك ظاهرة اجتماعية، مهما كانت وفي أي زمن ، تكون خيراً لا شر فيها؛ غير أن القياس يجب أن يكون نسبياً؛ فإذا غلب الخير يجب أن نقبل - مرغمين - قليلاً من الشر، ونحن بذلك كمن يقبل شيئاً من المخاطرة في سبيل نيل ربح أكبر؛ المهم أن تكون المخاطرة محسوبة بعناية، و(متوقعة) حتى لا نتفاجأ بها، وأن يكون لدينا من الآليات والخيارات والبدائل ما نستطيع بها أن نستمر في السير الحثيث نحو أهدافنا التنموية؛ والمهم – أيضاً - أن نجعل نصب أعيننا عبارة تقول : إلا التكلس أو النكوص.
|
يقول ابن الوردي في لاميته الشهيرة:
|
فبِمُكث الماء يبقى آسنا |
وسُرى البدر به البدرُ اكتملْ |
وكذلك المجتمعات هي الأخرى تتأسن إذا ركدت ولم تتحرك؛ ومن أهم إفرازات هذه المجتمعات (الآسنة)، إضافة إلى الهدوء الظاهر، والاستقرار (الخدّاع)، والخمول والكسل والتَّبلد؛ أنها تكون (بالضرورة) مبعثاً لكل أسباب الأمراض والأوبئة الأخلاقية والفكرية والثقافية، كانتشار ثقافة الإرهاب يميناً وانتشار المخدرات في المقابل يساراً؛ ولنتذكر دائماً المثل الذي يقول: (الماء الجاري لا يتعفَّن).
|
|
|