Al Jazirah NewsPaper Sunday  23/05/2010 G Issue 13751
الأحد 09 جمادىالآخرة 1431   العدد  13751
 
شيء من تأريخ تيار ما سمي بـ «الصحوة» في العقود الثلاثة المختطفة.. وقائع إعلامية وفكرية 2-2
د. محمد عبدالله العوين

 

أرسل إليّ كثيرون من ذوي العلم والفضل ومن القراء الأكارم يحثونني على مواصلة الكتابة في شجون وقضايا ما سمي ب «الصحوة»، وبخاصة في جانبها التأريخي، والإبانة عن المناخات الفكرية والاجتماعية والسياسية لمجتمعنا في العقود الثلاثة المختطفة....

...وأعني بها تحديدا من 1390ه إلى 1420ه حيث كان البدء النشط لنشوء التيارات الإسلاموية السياسية مع نزوح نخب قيادية مختلفة القدرات والتأهيل من جماعة الإخوان المسلمين من مصر ولجوئها إلى المملكة بعد أن ضربها النظام الناصري في مقتل، وأحكم عليها الحصار، وأدخل مئات من عناصرها إلى السجون والمعتقلات مع منتصف الثمانينيات الهجرية من القرن الماضي؛ فوجدت لدينا البيئة المناسبة للعمل، واشتغلت على استنبات ما عجزت عنه في مصر، فما إن انتصفت التسعينيات الهجرية من القرن الماضي إلا وقد تشكلت طبقة سعودية شابة مؤدلجة حزبيا بفكر الجماعة القائم على مرتكزين رئيسين، هما «الحاكمية» و»الجاهلية» اللذان قعّد لهما سيد قطب في كتابيه «معالم على الطريق» و»في ظلال القرآن» آخذاً من مبتدعهما الأول أبي الأعلى المودودي الهندي الجنسية منظر تيار ما سمي ب»الأدب الإسلامي»، وهو المعلم الأول لسيد، والملقن له أفكاره التكفيرية الواردة في جل كتب المودودي، مثل كتابيه: الإسلام والجاهلية، والمصطلحات الأساسية الأربعة في القرآن، ألفهما عام 1360ه، وقد بلغ الاتفاق الفكري بينهما إلى درجة التطابق التام، حتى إن أبا الأعلى حين قرأ كتاب المعالم لسيد في منتصف الثمانينيات الهجرية في مكة حين قدمه إليه أحد الشبان من بلادنا قال: كأنني أنا الذي كتبت هذا الكتاب!

وكأن أبا الأعلى قد أملى على سيد فكرةً فكرةً ما سطره في كتابه المعنون ب»دعوة الجماعة الإسلامية» الذي يؤسس فيه لملامح أقلية إسلامية مستضعفة تعيش وسط طوفان ديانات هندية متعددة تبدأ بالبراهماتية ولا تنتهي بالبوذية وتقديس البقر! وتتشكل عند المفكر المصري الذي سيعدي غيره لاحقا مفهومات جماعة إسلامية مضطهدة في مصر هي جماعة الإخوان المسلمين فيرى أنها الجماعة الإسلامية الناجية الموعودة بخلافة الأرض ويستدعي شروط الجماعة الإسلامية في الهند فيطبقها بإحكام على المسلمين في ديار العرب كما طبقها معلمه المودودي على الأقلية المسلمة في الهند البوذية!

وهنا يتبين بجلاء كم هو مؤلم استنساخ حالة جماعة تعاني الاضطهاد في بيئة غير إسلامية هي الهند إلى بيئة عربية إسلامية قحة لا تعاني من المشكلات ولا الاستلاب ولا التهميش الذي كانت تعانيه جماعة المسلمين في الهند؛ مما دفع منظرها إلى أن يحدد ملامحها في العقيدة والأدب لئلا تضمحل وتتلاشى وسط الطوفان غير الإسلامي، ولكن سيد وتلامذته من بعده تأثروا بهذه الأفكار «الهندية» وأُعجبوا بها وتوسعوا في شروحها وتقديمها إلى أبناء جلدتهم من العرب؛ فتكونت لدينا ألوان عدة من مصطلحات جديدة على ثقافتنا العربية كل الجدة من مثل: جماعة المسلمين؛ كما في الهند! والأدب الإسلامي، والحاكمية، والجاهلية، وغيرها من مفهومات لا تستدعى ولا تطبق إلا في بيئة غير إسلامية كالهند مثلا.

يريد بعض القارئين الأفاضل الاستطراد في أحاديث كهذه، وهو أمر طيب أن نضيء للأجيال الحاضرة ما عمي عليها وما رأت ثمراته ونتائجه في هذه السنوات المتأخرة، بيد أن هذا الجزء من هذه المقالة لا يستوعب البحث في نشأة وتجذر مصطلحي الحاكمية والجاهلية بمفهوميهما المتطرفين عند أبي الأعلى وسيد، فله موضع ووقت آخر؛ لأنني أريد أن أذهب في هذا الجزء إلى التدليل على ما أحدثه التقليد لأبي الأعلى ثم التأثر بفكر سيد الذي انحرف مع مطلع الثمانينيات الهجرية من القرن الماضي بفكره عن اتجاه جماعة الإخوان المسلمين المعتدل الذي قامت عليه حين بدأ مؤسسها حسن البنا في تكوين بنيتها الفكرية الأولى بمقالاته في مجلة الدعوة في سنواتها العشر قبل منتصف القرن الميلادي الماضي وفي كتابه المؤسس لفكر الجماعة: مذكرات الدعوة والداعية.

لقد بدأ تأثير مد الفكر الإسلاموي الحركي يظهر جليا وقويا ومتصاعدا سنة بعد أخرى في مجتمعنا السعودي بدفع عوامل متعددة؛ كفشل الاتجاه القومي متمثلا في نكبة 1967م، وفشل حركات التحرر الفكرية كالبعثيين والشيوعيين، وظهور ثورة الخميني الدينية، التي أحدثت موجة مضادة لها في الاتجاه المذهبي، وحدوث الغزو الشيوعي السوفييتي لأفغانستان، ولجوء نفر غير قليل إلى البحث عن حلول لدى أطياف مختلفة من الجماعات على اختلاف مناحيها وتعدد مشاربها، كالتبليغيين، والسلفيين، وأهل الحديث، والمتصوفة، والتكفيريين الذين كانوا في طور النشأة والتشكل في مصر وأفغانستان مع مطلع القرن الهجري الخامس عشر.

والحق أن مد ما سمي ب»الصحوة» كان أعظمها انتشارا وتأثيرا وتفاعلا مع ما يجدّ ويطرأ من متغيرات سياسية وثقافية وإبداعية؛ فكان من بدايات السعي إلى إظهار قوة التيار الصحوي الجديد توزيع الكاسيت الساخن المؤدلج، وشراء واستبدال المحلات الفنية بالشريط الإسلامي، وظهور موجة مضادة وعنيفة لتيار ما سمي ب»الحداثة» متمثلا ذلك في كتاب «الحداثة في ميزان الإسلام» لعوض القرني، واستفحال مظاهر التزمت والغلو لدى عدد غير قليل من أبناء الجيلين الأول والثاني من هذا القرن الهجري الجديد، وتشكيل نفر من المحتسبين لرصد نقاط الاختلاف مع الكتّاب والمبدعين بحيث أصبحت كل كلمة تُقال أو تُكتب عرضة للتفسير والتأويل والتقول وتحميلها ما لا تحتمل.

وأذكر في هذا السياق من الشواهد على ما بلغه التوتر النفسي وشدة الحساسية الدينية لدى عدد ممن يتعجل في التأويل أو التفسير أننا نشرنا في عدد من مجلة اليمامة في أحد أشهر عام 1412 قصيدة لشاعر كويتي ممن كانوا يقيمون لدينا إبان غزو العراق للكويت، وكانت تحمل في أسطرها كلمة «الشارع» فظن أحد المتحمسين - وكان من قاطني حي الشفاء كما أخبرني - أن المقصود «المشرع» وهو الله تبارك وتعالى؛ فسارع إلى زيارتنا وقت صلاة المغرب وبعد الصلاة جاءني في القسم الثقافي الذي كنت أشرف عليه آنذاك وعاتبني على المعاني التي توحي بها تلك القصيدة مستنكرا وبحدة كيف تسمح إدارة المجلة لشاعر أن يستهزئ بالشرع المطهر؟! فشرحت له بلطف أن المعنى الذي يرمي له الشاعر بعيد كل البُعد عما توارد إلى ذهنه، وألا صلة على الإطلاق بين «الشارع» وهو الطريق بمفهومه المادي و»المشرع» بمفهومه الديني محل الإجلال والتقدير، وحين تبين له المراد أبدى كثيرا من الارتياح، وشكرني على الأناة في الشرح وبسط الفكرة، ثم قال: أتعلم لِمَ أتيت إليكم وقت صلاة المغرب؟ قلت: لا. لا أعلم! قال: لأتأكد من أنكم تصلون! لأن العلمانيين لا يصلون والمجلة متهمة بأنها علمانية! فأبديت اندهاشي من هذا المفهوم الغريب الذي قاد إليه شيء يسير من الاختلاف في بعض الأفكار الجزئية التي لا تُخرج محرري المجلة وكتّابها من الملة، وقلت له: أنت يا أخي كنت بجانبي في صلاة المغرب ورأيت كيف أن كل من في المكاتب قد سارع إلى أداء الفريضة، وقد أمَّنا رجل طيب من السودان يشرف على أرشيف المجلة، وقرأ بصوت مؤثر؛ ما زادنا خشوعا وتبتلا! فأبدى شيئا من اعتذار على تعجله في الفَهْم.

وأتذكر قبل هذه الحادثة أن المجلة قد أثارت قضية بطاقة المرأة على غلاف أحد الأعداد ضمن قضية الأسبوع؛ فشن أحد الخطباء المتحمسين هجوما عنيفا على المجلة متهما محرريها بالمروق من الدين وبالدعوة إلى تحرير المرأة وسفورها، ثم وصل إلينا تسجيل لهذه الخطبة على شكل أعداد كبيرة من الأشرطة، وقام بزيارة رئيس التحرير الصديق الأديب الدكتور فهد العرابي الحارثي نفر غير قليل ممن تأثروا بما جاء في الخطبة فاستقبلهم بحفاوة وترحاب وأبدى لهم اهتمامه بما يخشونه مما كانوا يظنونه خطرا على أخلاق المرأة السعودية، وأبان لهم أن بطاقة المرأة تحميها من الاستغلال والتزوير والخديعة، وتحمي الأسر مما يمكن أن يحدث من هروب أو اختفاء أو تغرير، ولا أعلم أخرجوا مقتنعين أم أن في نفوسهم من الشك ما فيها!

ولأن تأثير هذا الهجوم كان بالغا وقويا أصبح يتدافع إلى المجلة في موقعها القديم بحي الملز أفواج من المتحمسين وقت صلاة المغرب أو العشاء؛ ليتأكدوا من أن المحررين والكتّاب يؤدون الصلاة! مما اضطر رئيس التحرير إلى إغلاق الباب الخارجي للمجلة وتعليق لوحة: الباب مغلق لأداء الصلاة، كما تفعل المحلات التجارية!

وفي شهر رمضان شرفه الله من عام 1410هـ كتبت في الصفحة الثقافية من جريدة الرياض مقالة في أجزاء بعنوان: (إشكالية التحديث)، تحفر عميقا في الدعوات التحديثية للفكر العربي في عصر النهضة، وكان لزاما أن ترد أسماء أعلام لها باع طويل في حمل راية التنوير كعلي مبارك وخير الدين التونسي ومحمد عبده وقاسم أمين وطه حسين وغيرهم؛ فدلف علينا أحد المتحمسين في عصر يوم من ذلك الرمضان ومعي في المكتب يؤانسني الصديق الأستاذ الشاعر سعد الحميدين المشرف على القسم الثقافي، وأخذ يذكر مآخذه على المقالة وعلى كاتبها ونيله من قيم الدين ومديحه لفئة من المنحرفين من التغريبيين وأعداء الأمة، ويطالب بوقف هذه السلسلة وتنبيه الكاتب إلى ما وقع فيه من أخطاء وانحرافات، وسأل: هل هو موجود؟ فرد عليه الأستاذ سعد - وكنت بجانبه ولم يعلم أنني أنا من يطلب - بأنه الآن غير موجود في الجريدة وإذا كان لديك من رد على الكاتب فأعطنا إياه وسننشره في الصفحة نفسها في الخميس القادم موعد صدور الملحق. وهذا ما حدث بالفعل؛ فقد نشرت رده كاملا رغم حرارته واتهاماته الجاهزة. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ فقد جاء إلي نائب رئيس التحرير الأستاذ المرحوم محمد الجحلان واقترح علي التوقف عن كتابة هذا المقال لما وصل إليه من مهاتفات وردود فعل غاضبة، فقلت له: وهل يكفي إيراد أسماء لا تجد قبولا أو اتفاقا لدى نفر من القراء المتحمسين مع كل ما تذهب إليه من أفكار للتوقف عن الكتابة في إشكالية التحديث؟! ثم لم يكتفوا بهذا؛ بل رفع عدد منهم ملحوظات إلى إدارة المطبوعات بوزارة الإعلام فجاء إلينا في مقر الجريدة في أمسية رمضانية من تلك السنة الأستاذان الفاضلان عبدالرحمن الراشد ومحمد الخضير، والأول كان وكيلا مساعدا للوزارة لشؤون المطبوعات، والثاني كان مديرا عاما للمطبوعات، وحملا في ملف ضخم عددا من الملحوظات على جملة من كتّاب الجريدة بعث بها المتحمسون، وأبلغنا بها رئيس التحرير.

والتقيت في يوم ما من عام 1412هـ بأحد الأدباء الفضلاء فأشار إلى ذلك المقال، ثم قال: انتبه جيدا يا محمد فقد علمت أن لك ملفا يحوي كتاباتك يجمعه أحد المتحمسين من مريدي الشيخ الفلاني -من زعماء تيار الصحوة المهيجين في ذلك الوقت - وهو ينوي محاكمة التيار الحديث كله بمن فيهم أنت ومن لف لفك من الكتّاب والشعراء؛ فكن حذرا من أن يقع منك ما تؤاخذ به، فداخلني بعض توتر، وكان كتابي (عفو الخاطر) في المطبعة فذهبت أنقحه وأبالغ في تعديل وتلطيف عبارات كان يمكن أن يتوقف عندها من يتشكك أو يتوهم أو يتصيد في الماء العكر!

وفي عام 1412هـ حدثت واقعة مسيرة قيادة المرأة للسيارة في طريق الملك عبدالعزيز بالقرب من فندق صلاح الدين؛ فاشتغل الكاسيت والفاكس بالهجوم على المطالبات بقيادة المرأة للسيارة، ووصلتنا في مجلة اليمامة بالفاكس خطابات هجوم وتعليقات بذيئة على قائمة أسماء النساء، وزارني في المنزل بعد مغرب أحد الأيام نفر من المتحمسين يستشف رأيي هل أنا مؤيد أم متوقف أم معارض؟ فذكرت لهم بعد الترحيب بهم وملاطفتهم أن هذا الأمر متروك إلى حين تصدر فيه فتوى رسمية من سماحة المفتي وتضع له الدولة قوانين وأنظمة وضوابط، أما قبل ذلك فلا نستطيع أن نبدي رأيا! فارتاحت نفوسهم لهذا الرأي الوسطي؛ لخوفهم من أن الكتّاب الصحفيين سيدافعون عن الفتيات اللائي تولين كبر أمر قيادة السيارة في أحد شوارع الرياض الرئيسة!

وحدث في عام 1413هـ بعد أن انطفأت نيران حرب الخليج وهدأت الأمور أن بدا واضحا في مجتمعنا السعودي حركة استقطاب حزبية دينية قوية تحت لافتة ما يسمى بالصحوة؛ فخشي الواعون والعقلاء من أن يكون وراء هذا الاستقطاب ما وراءه مما وقع شيء منه لاحقا بعد سنوات حين جرف التطرف عددا من أبنائنا إلى منزلقاته الخطرة فخرجوا على وطنهم ومجتمعهم وأصبحوا حربا عليه بدلا من أن يكونوا عونا له؛ لحظت ذلك فنبهت لخطورة التطرف من زاويتيه: الغلو في الدين، أو الفساد الأخلاقي، في برنامج «أهلا بالمستمعين» الإذاعي، وأفضت في الحديث بحماسة شديدة عما يساورنا كمجتمع من مخاوف على أبنائنا من خطر التحشيد والتحزيب والدفع إلى مواجهة السلطة والمجتمع بعلمائه الأجلاء ومثقفيه وكتّابه وأصحاب الرأي فيه. ولم يكن الجوال قد اكتُشف بعد، فما إن عدت إلى المنزل عند الحادية عشرة مساء إلا والهاتف لا يتوقف عن الرنين، وأصوات متهدجة حانقة تتوعد وتشتم وتهدد بالشكوى إلى الوزير والمفتي بأنني أحارب الصالحين وأدعو إلى تقليص نشاطهم؛ فرددت على واحد واثنين وثلاثة ثم لم أعد أطيق ذلك ففصلت الهاتف وتأكد لي أن الأرض حبلى بما يقلق! وهو ما وقع بعد في مجتمعنا الطيب المسالم من أحداث إرهابية بدءا من عام 1416هـ.

وخلاصة القول: كان الفضاء في العقدين التاليين لمطلع القرن الهجري الجديد بعد سنوات التأسيس العشر لتيار الفكر الحركي مشبعا بتوتر وقلق، ومتفردا به صوت واحد، وكل دعوة تنويرية، أو فكرة حديثة سيطاردها التقول والاتهام إلى أن وقع الحدث الأكبر 2001م في سبتمبر الذي قلب للتيار الغالي ظهر المجن وقسم العالم إلى فسطاطين وغيَّر مجرى التاريخ في العالم كله.



ksa-7007@hotmail.com

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد