لم يكن (تشارلز داوتي 1843-1926م) سائحاً عابراً؛ فقد أحاطت به شبهة التبشير المغلف بمهنة الطب؛ فاستقبل في أماكن وطُرد من أماكن، ولقي من يهتم بأمره عند إبعاده، وسجل رحلته في كتابه (الصحراء العربية)، وبقي ما قاله شاهداً على الأفق يلدُ الشمسَ والغيم والغبار.
لم يُنَصِّر أحداً، وفاض كتابُه بمن سمح ومن منع، وبقي «زامل العبد الله السُلَيْم» نموذجاً للوعي؛ فقد احتفى رغم علمه بالرجل، وحين ضُيق عليه لإبعاد «النصراني» تكفل بأمر إيوائه وإخفائه.
هنا تبدو بعض تناقضات الخطاب المؤدلج في اتكائه على الغيبيات التي نشاركه الإيمان بما يتصل منها بأمور العقيدة وأركان الإيمان والإحسان وما في حكمها، ثم نفترق عنه فيما هو مرتبط بالفطرة والعقل والتربة والتربية والثقافة، ولا يعنينا، هنا، ما له شأن بالكرامات والرقية والتأثيرات الخفية التي أفسدت جزءاً من الحياة المجتمعية، فبات بعض أفرادها اتكاليين وفق أفهام وأوهام وأضحتْ مبرراً لمن تصندق مُحَمِّلاً الرموز الغائبة مسؤوليات إخفاقاته، ودافعاً المشككين في توجهه لاعتناقه.
في مثل هذا الخطاب المبني على «الغَيْبة»- دون أن يقترن «بالتفاتة البلاغيين» - التفافٌ - في المقلب الآخر - ليمثل التغييبُ حقيقة المنفى؛ فمصادرةُ قلم أو رأي أو شخص - في نظرهم - تعني نهايته من العالم الذي يتوهمون حراسته بل امتلاكه.
في أواخر الستينيات الميلادية كان في مدرسي شباب مدينتنا معلمُ لغةٍ إنجليزيٌ محبٌ للثقافة ومتواصل مع المجتمع؛ فافترض له اجتهادهم دوراً تغريبياً ورحّلوه، لكنه لم يغب عن الحضور في أذهان محبيه؛ يزورونه ويتكاتبون معه، ثم سمعنا عن تحوله للإسلام الذي تتأكد بشأنه نظريةٌ مفادها أنه دين ينتشر دون سعينا؛ فخطابنا، كما ممارساتنا، تيهٌ بين التطرف الإقصائي المنكفئ على ذاته والسلوك البوهيمي المنفتح على ملذاته، وبينهما مستلب ومتآمر؛ ما يجعلنا صورة مقفلة لدين منطلق.
تكررت صورة النفي في حوادث مماثلة، كان من بينها استعداء بعضٍ فينا على خبراءَ ذوي اختصاص لمخالفتهم الملة، وذات عمل جاء أحدهم يطلب إلغاء عقد استشاري عربي كفؤ تخرَّج في جامعة عريقة لمجرد اختلاف ديانته، رغم التزامه السلوكي وتميُّزه العملي ودخوله الوطن تحت الشمس (وكان - بالمناسبة - يحفظ آيات من القرآن الكريم، ولا ينام إلا بعدما يورد بآية الكرسي).
كان الجدل مع نهج الإغلاق أن كيف نخاف على وسط كل من فيه مسلمون موحدون منغرسون في جذورهم الدينية والمجتمعية من أفراد عُزْل يخضعون للنظام والمساءلة والمتابعة إلا أن تكون هي الهشاشة الفكرية والضيق الأفقي والحرب غير المتكافئة وتقديم صورة غريبة عن دين عظيم احتوى المخالفين والمنافقين وفلول يهود والمشركين.
مر قرن، وما يزال فينا من يفكر بطرد المختلفين بعد رميهم بالتهم، لكنهم لن يرحلوا، ولو رحلوا فلن يختفوا، وسنستعيد كتابات «داوتيين جدد» لنقرأ مراحل تطور التفكير ومنحنيات التكفير.
التحول لا يعني الفناء.
Ibrturkia@gmail.com