لا جدال أن الفكر العربي بمختلف اتجاهاته لم يصل بعد إلى درجة إحداث أثر حقيقي على الأرض العربية، ولعل أحد أهم أسباب ذلك بعده النخبوي المفرط، وارتباطه الكلي بالعقل المركزي الغربي، الذي يُقدم منهجه على أنه المركز الكوني للفكر الإنساني كما بشّر به الفيلسوف الألماني المشهور فردريك هيغل (ت1831)، والذي ينفي عن الشرق مشاركته في بناء الفكر أو العقل الإنساني، ويختزل الشرق في أنه مصدر الأديان بمختلف أطيافها، وهو بذلك يحاول طمس ما أضافه الفكر الإسلامي بدءاً من الحراك العقلاني في الإسلام منذ الفتنة ومروراً بالمعتزلة والكندي والفارابي وابن سينا وانتهاءً بالفيلسوف العربي الشهير ابن رشد..
لا توجد فلسفة عربية معاصرة ومؤثرة في العصر الحديث، واكتفى المثقف العربي بنقل قوالب الفلسفة الغربية إلى الثقافة العربية، ليصبح المفكر العربي الحالي في معظم أطروحاته يختزل إبداع العقل في الغرب، ويجعل من التاريخ العربي والإسلامي مصدراً ماضوياً للتخلف والجهل، ويستبعد أن يأتي الحل من خلال الحل التوفيقي بين التراث والتحديث، ويكتفي باستيراد التجارب الغربية التي قامت كردة فعل عقلانية على حقبات سياسية ودينية غربية، مثل حكم الكنيسة المطلقة والإقطاع والثورات الدموية والشيوعية والنازية والفاشية، وكان لها أكبر الأثر في إنتاج المعرفة والمعرفة المضادة في الغرب، مما يهمِّش الأثر الفكري العربي، ويجعل من الهوية العربية عرضة للاندثار..
هم بذلك ينفون بصورة غبر مباشرة وجود أرضية لفلسفة أو فكر عربي إسلامي فلسفي، ويردد مقولات غربية تُرجع معظم أطروحات العقلانية العربية الإسلامية إلى نقولات حرفية من ترجمة كتب اليونان.. كذلك كان الموقف السلبي والمحافظ في القرون الأولى ضد تيار العقلانية في الإسلام المعول الذي قوض بدايات عصر التنوير العربي من خلال مخاض صراع طويل كان قوامه عصر الكلام أو الجدل، والذي بدأ قبل عصر الترجمة بقرون، وظهر مثقفون في المجتمع العربي الإسلامي يطالبون بحرية الاختيار وحكم الشورى، ويناهضون الجبر والاستبداد قبل عصور ترجمة الكتب اليونانية... لا يمكن أن نخرج من عصور التكرار إلا من خلال إعادة قراءة التراث وتأصيل الهوية، وأي محاولة لتقديم فكر القطيعة مع التراث سيكون مآلها كارثياً، وسيعيد المجتمع إلى الأصولية، فالتطور يحدث من خلال القراءات المتأنية للواقع، وليس عبر نقل القوالب الغربية الجاهزة.
لفت نظري مؤخراً كتاب عنوانه (المفكرون الأحرار في الإسلام) لمستعرب فرنسي اسمه دومينيك أورفوا، ركز فيه على اثني عشر اسماً تميّز أصحابها بمواقف أطلق عليها صفة الاستقلالية، لكن العامل المشترك بين هذه الكوكبة كان في موقفها المشكك أو الرافض للدين الإسلامي، وقد ضمّت من الأسماء: ابن المقفع، حنين بن إسحق، الورّاق، ابن الريوندي، حيويه البلخي، أبو بكر الرازي، المعرّي، ابن كمّونة، وغيرهم، عاشت هذه الكوكبة من الكتّاب في فترة تزامنت مع بداية الخلافة العباسية واستمرت إلى ما بعد نهايتها بسنوات قليلة، والمأخذ على الكتاب هو حصره للفكر الحر في المفكرين الذين يرفضون باطناً أو ظاهراً الدين الإسلامي كحقيقة، وهي قراءه منحازة ومخالفة لواقع الفكر الفلسفي في تاريخ المسلمين، والذي كان له أعلام قدموا أطروحات توفيقة بين الحكمة والشريعة..
خلاصة القول إنه على الرغم من الزخم الثقافي العربي في نهاية القرن العشرين وأوائل القرن الجديد إلا أن الحال الثقافية العربية لم تصل بعد إلى درجة الإبداع، والخروج من منهج التقليد الغربي ونقل القوالب الجاهزة وتطبيقاتها على الواقع العربي.. لا زالت مساحة الفكر العربي خالية من أي أثر للفكر العقلاني الخلاّق، فالعقل العربي المعاصر لم يدخل بعد إلى مرحلة إنتاج القراءات الفلسفية للواقع العربي، والسبب يكمن في غياب المبدعين القادرين على إنتاج فلسفة عربية مواكبة لما يحدث ويتكرر على الأرض وتقدم النقد والحلول للحالة العربية البائسة.