أصبح كرسي رئيس التحرير من الكراسي التي تدور سريعا، وتتحرك أحيانا بسرعة فائقة وبين لحظة وأخرى يتغير الأشخاص، وتتبدل العلاقات.. ومبدأ تغيير رؤساء التحرير ليس سلبيا في أساسه..
فقد يكون إيجابيا في بعض الأحيان.. لأنه قد يضخ دماء جديدة في منظومة المؤسسة الصحافية.. ورئيس تحرير أي مطبوعة هو الشخص الوحيد الذي يقود دفة التحرير، ويوجه سياساته، ويضع بصماته على جميع المنتج الصحافي في الصحيفة أو المجلة.. ونعتاد في بعض الدول إلى إقالات بعض رؤساء تحرير الصحف لأسباب مختلفة، قد تكون سياسية، أو دينية، أو حتى على أساس النجاح والفشل بالنسبة للصحيفة أو المجلة..
وعادة أخبار إقالات رؤساء التحرير تجد اهتماماً دولياً، وتنشر وكالات الأنباء مثل هذه الأخبار سريعا، وتخوض أكثر في مسببات الإقالة. كما تنبري المواقع الإلكترونية في تلقف مثل هذه الأخبار، والتعليق عليها، وإسقاط ما في النفس فيها.. الخ
واستقالة رئيس التحرير أو إقالته هي مختلفة لاشك، وتتساوى إذا أجبر هو على تقديم استقالته حفظا لماء الوجه، وتطييبا للخاطر، وتبييضا لدور ومكانة المؤسسة.. ولكن الإقالة هي محور الاهتمام المحلي والدولي، ولاسيما إذا كانت المسببات جدلية، وتثير لغطا معينا على فئات وشرائح في المجتمع. وفي مجتمعنا السعودي حدثت حالات إقالات واستقالات على مر العقود الماضية، كان آخرها استقالة أو إقالة الأستاذ جمال خاشقجي رئيس تحرير الوطن، وهي الحدث الثاني في تاريخه مع هذه الصحيفة.. وجميع هذه الإقالات وجدت اهتماما وطنيا وعربيا ودوليا..
وعادة تكون هناك مسببات أجبرت المؤسسة السياسية أو الأمنية أو الدينية أو الاجتماعية على اتخاذ مثل هذا القرار المهم للمؤسسة أو للمجتمع.. فأقل ذلك التبرير هو وقف جدل معين قد ينشأ عنه خلاف وطني يمس وحدة الوطن، أو يهدم جسوراً مهمة تربط بين أبناء المجتمع الواحد.. أو قد يكون السبب هو أن المؤسسة السياسية ترى أن خطأ فادحا قد حدث من خلال تغطيات أو نشر مقالات تمس سمعة المؤسسة، أو تشوش على مظاهر معينة في جوانب منها..
وهناك حق دستوري تمتلكه المؤسسات الرسمية في تغيير الأشخاص، من مرتبة وزير إلى مراتب أقل إذا رأت أن توجها يضر بمصلحة وطنية وجد طريقا عبر صحيفة أو مجلة أو ووسيلة إعلامية معينة.. فمن المعروف أن هناك في أي مجتمع في هذا العالم الفسيح ثوابت معينة وخطوطا حمراء لا ينبغي أن يصل إليها كاتب أو ووسيلة إعلامية.. وعلى سبيل المثال فإن الأمن القومي الأمريكي هو خط أحمر يجب أن تبتعد عنه وسائل الإعلام، ويجب أن تتشاور قبل النشر في مثل هكذا موضوع.. كما في مجتمعات أخرى القوات المسلحة تعد خطاً أحمر لا يمكن المساس بها أو التشويش على صورتها.
ومعظم مسببات الإقالة في صحافتنا السعودية هي نتيجة مقالات رأي كتبها كتاب الصحيفة أو المجلة، بعكس حالات محاكمات النشر في دول العالم الأخرى، فهي عادة تكون بسبب نشر خبر أو تحقيق استقصائي أو تقرير، لأن حرية الرأي هناك مكفولة بحكم الدستور لمن يعلن رأيه سواء في الهايد بارك بعد أن يكون قد اعتلى منصة ترتفع سنتيمترات قليلة حتى لا يعلن مثل هذا الرأي على الأراضي البريطانية، أو يكون هذا الرأي في صحيفة أو مجلة أو وسيلة إعلام في أمريكا أو كندا أو غيرها من الدول الأخرى..
وهناك فارق آخر محوري بين مشاكل النشر ومحاكمات الإعلام، فإقالة رئيس تحرير أو محرر في الصحيفة في دول كثيرة من العالم لا يحل المشكلة، فينظر إليه كأنه مشكلة داخلية من مسئوليات المؤسسة الصحافية أو الإعلامية.. ولكن المؤسسة يجب أن تدفع ضريبة إخلالها بقوانين النشر والبث، وعادة يكلف المؤسسة عشرات الملايين التي تضطر إلى دفعها إذا ثبت تهاون أو تزييف لتلك الوقائع أو أنها نالت من الأمن الوطني في تلك الدول.. أما في مجتمعنا فإن مجرد إقالة رئيس التحرير، أو إيقاف كاتب، أو مندوب تنهي المشكلة..
وأخيراً، في زخم ما يدور حاليا من تداعيات على خلفية استقالة أو إقالة رئيس تحرير صحيفة الوطن، فإني أرى أن تناقش اللجنة الإعلامية بمجلس الشورى هذا الموضوع، وتبعاته وتداعياته.. فلم نسمع لهذه اللجنة أصواتا خلال السنوات الماضية في قضايا جوهرية عن الإعلام.. ولربما يكون هذا الموضوع مطروحا للنقاش بين أعضاء اللجنة وربما بين أعضاء المجلس.. نحتاج تدخلات تشريعية واضحة في هذا الخصوص، لأن أحداث إقالات رؤساء التحرير قد تفسر تفسيرات معينة بعيدة عن الواقع، وقد لا تكون المؤسسة السياسية خلف مثل هذه الإقالات.. ولربما لو وضع مجلس الشورى تفسيرات منتهية بلوائح تنفيذية لنظام النشر أو نظام المؤسسات الصحافية فلن ندخل في جدل وتداعيات كبيرة لو حدثت الإقالة وفق معايير وقواعد معروفة
للجميع.
المشرف على كرسي صحيفة الجزيرة للصحافة الدولية
أستاذ الإعلام بجامعة الملك سعود
alkami@ksu.edu.sa