لا يوجد دولة تتعمد إفساد تصرفات مواطنيها وإلا فقدت روابطها الاجتماعية وتفككت. لكن ولحسابات مرحلية أحيانا قد تغض الدولة النظر عن بعض التجاوزات والتصرفات القبيحة لكي تتفرغ لملاحقة أنواع أخرى من التجاوزات أكثر أهمية. قد تغض الدولة الطرف أيضا عن أنواع من التصرفات الاجتماعية الضارة التي لا تتحدى هيبة السلطة بشكل مباشر لأنها لا تريد التصرف بشكل متوتر دائما، من باب الإرسال هنا والشد هناك حتى لا تنقطع شعرة معاوية مع كل الطبقات. لكن المتوقع من محاولة التوازن هذه هو أنها تضفي على بعض التصرفات السيئة مع مرور الوقت صفة الاعتيادية والقبول. حينئذ يتعايش الناس مع المسكوت عنه فيتكاثر وينتشر وتتربى الأجيال على النمو معه واستيعابه في منظومة التصرف الاجتماعي المقبول كسمة أو عادة اجتماعية.
هذا الذي ورد ذكره فيما تغض الدولة النظر عنه يقع في الكفة اليسرى من نظام الميزان الاجتماعي، أما الذي في الكفة اليمنى فهو الفساد الأمني والأخلاقي الذي لا خلاف هنا على صرامة الدولة وجديتها في متابعته واجتثاثه. أريد أن أقول بعبارة أخرى إن الدولة تضرب بيد من حديد على كل أنواع الفساد الأكبر لكنها لا تضرب بنفس اليد على أنواع أخرى من الفساد الأصغر الذي يبدو فعلا أصغر بالمقارنة، لكنه مع ذلك ينخر في النظام العام ويكلف أرواحا وأموالا وساعات عمل مهدورة وحقوقا ضائعة. الأمر يحتاج إلى توضيح وضرب أمثلة، والأمثلة على تساهل أنظمة الدولة (وهذا يعني الدولة) مع أنواع كثيرة جدا من التصرفات الاجتماعية الفاسدة سهل الاستحضار والوصف. خذوا مثلا مخالفات رجل المرور دون أي مبرر لقواعد المرور وعلى عينك يا تاجر أمام السائقين الآخرين، أو تصرفه المتعالي عند مباشرة المخالفات المرورية والحوادث ومحاولة ضبطها، أو مدى تجهمه وضيق صدره عند التعامل مع السائقين الآخرين.. إلى آخر التعديات على مايتطلبه نظام الدولة من الانضباط المسؤول وضرب المثل القدوة من رجل المرور. لا أظنني بحاجة إلى التفصيل في ذلك لأنها مشاهدات يومية وحديث مجالس يومي. المشكلة هنا هي أن تساهل الدولة في محاسبة رجل المرور على تصرفاته المسيئة حين تحدث يجعل المواطن يضرب بأخلاقيات الانضباط وبقواعد استعمال الشارع عرض الحائط كل ما سنحت له الفرص وما أكثرها. مع مرور الوقت يصبح تسيب المواطن السائق تحصيل حاصل وعادة اجتماعية تجعل السائق الأجنبي في أول عهده بالمملكة يهز رأسه اندهاشا واحتقارا لكنه ما يلبث أن ينخرط في منظومة الفوضى المحلية ويزايد حتى على المواطن.
كل ما قلته عن المرور وغض الدولة النظر عن التعامل معه حسب مقتضيات النظام يمكن تعميمه على تعامل موظف الدولة في القطاع العام مع ساعات العمل ومع واجباته الوظيفية ومع المراجع الواقف أمامه، وقد تصل الأمور إلى تقديم الخدمات مقابل الرشوة هنا والتسيب والتعطيل الكيدي هناك. موظف القطاع العام السعودي يعد من أسوأ الموظفين في العالم انضباطا وإنجازا وتعاملا، بخلاف الموظف السعودي بالقطاع الخاص الذي هو عادة في قمة الجودة. نتساءل لماذا ومسؤولية من هذه؟. إنها بالتأكيد مسؤولية الدولة عن ابنها حين تغض الطرف عن تأديبه وتقويمه.
في القطاع الصحي نستطيع أن ننسج على نفس المنوال فنقول أن المريض المنتمي للطبقات الأعلى من المتوسط يمتلك القدرة الفورية في الحصول على ملف طبي، بل ويمتلك عدة ملفات طبية في كل المستشفيات الكبرى في نفس الوقت، ويجد من يستقبله ويؤمن له الخدمة متى ما طلب ذلك، وبالمقابل هناك آلاف المرضى الذين قد يلفظ بعضهم أنفاسه قبل الحصول على موعد واحد في مستشفى واحد من مستشفيات الدولة. هذا النوع من الفساد الذي لا يطيقه أي مجتمع سوي منتشر بشكل واسع في القطاع الصحي العام، والسبب المباشر فيه هو المواطن الطبيب والمواطن الموظف الصحي والمواطن موظف الاستقبال الذي يطبق حتى في مسائل الموت والحياة قواعد الأعراف والمجاملات الاجتماعية وتبادل الخدمات المصلحية على حساب الحق والنظام العام. لكن المسؤول النهائي والحقيقي عن التطبيق العادل للنظام هو الدولة وهي تستطيع بالتأكيد إنزال العقوبات على مخالف النظام حتى في الأمور التي تراها أقل أهمية من أمور أخرى.
الخلاصة: إذا كانت المفاهيم والعادات البالية والولاءات العصبية تساهم كثيرا في انتشار التجاوزات على النظام العام وضياع الأموال وتخريب الممتلكات العامة وتضييع الحقوق على مستحقيها لصالح من لا يستحقها فإن الدولة بتغاضيها ولو مرحليا عن تلك التجاوزات تساهم بنصيب وافر في إفساد المواطن وتشجيعه على التمادي في تلك التجاوزات، بل وفي إسباغه على بعضها صفة الشهامة والعادات الحميدة.