Al Jazirah NewsPaper Monday  17/05/2010 G Issue 13745
الأثنين 03 جمادىالآخرة 1431   العدد  13745
 
لماذا فشلت مؤسسات المجتمع المدني عربياً؟
د. عبد الرحمن الحبيب

 

تشير الدراسات أنه بعد حرب الخليج 1990 ازدهرت مؤسسات المجتمع المدني في العالم العربي، وقفز عددها لأضعاف مضاعفة كما في البحرين واليمن، وإلى ثلاثة أضعاف في لبنان، والضعف في السعودية والكويت (سالم ناصر، سين يوم).

وازدهرت معها أطروحة مفادها أن الإصلاح والدمقرطة في العالم العربي تستلزم نشوء مؤسسات المجتمع المدني المستقلة. لكن الذي حدث خلال عشرين عاماً هو أنه رغم زيادة عدد مؤسسات المجتمع المدني، لم تزد معه استقلالية الحياة المدنية، بل زاد تدخل الدولة.. لماذا؟ الباحث شون يوم (Sean Yom) من جامعة هارفرد يطرح في دراسة بعنوان «المجتمع المدني والدمقرطة في العالم العربي»، سببين رئيسيين: الأول هو أن مؤسسات المجتمع المدني لم تحشد جمهوراً كافياً من الأنصار داخل المجتمع فهي محدودة الانتشار. فأكبر منظمات المجتمع المدني تعاني من لا مبالاة واسعة النطاق بين أعضائها. ففي مصر مثلاً نجد أن انتخابات نقابات العمال نادراً ما يشارك بها أكثر من 10-15% من الناخبين.. ثمة انعدام ثقة لدى الجمهور، فأغلب تلك المؤسسات هي أصلاً غير ديمقراطية في إدارتها الداخلية.

السبب الثاني هو عدم وجود رابطة أو علاقة توحد بين تلك المؤسسات، بل على العكس فكثيراً ما يشوب هذه العلاقة الارتياب. لذا كان من توصيات المؤتمر السعودي الثاني للتطوع المطالبة بقيام جمعية وطنية سعودية للخدمات التطوعية تسهم في تطوير العمل التطوعي في المملكة تخطيطاً وتأهيلاً وتدريباً ويفتح لها فروع في مختلف المناطق وتنسق مع الجهات العاملة في الخدمات التطوعية بمختلف مجالاتها.

هذان السببان يأتيان جنبا إلى جنب مع التطرف الإيديولوجي؛ وهنا نأتي للعنصر المفقود في هذا السياق وهو الاتجاه الإسلامي ونمو الجمعيات الدينية الخيرية، مما يشكل تحدياً كبيراً لأطروحة المجتمع المدني. ومكمن هذا التحدي يتشكل في معضلتين وفقاً لدراسة «يوم». الأولى هي مدى اقتناع الناشطين الإسلاميين بالعمل المدني المؤسسي وبالإصلاح وبالديمقراطية وعدم التسييس الأصولي أو تشريع العنف للحركات الإسلامية المتطرفة.

لقد سبق أن طرح مدير عام الشؤون القانونية بوزارة العمل السعودية محمد الدويش بأن سبب ضعف مؤسسات المجتمع المدني يرجع إلى سيطرة تيار ما يسمى بالصحوة على المجتمع خلال العقود الماضية وما نتج عن ذلك من خلل وضعف في المؤسسات المدنية التي نشأت في هذه الأجواء مما أدى لخنق أنشطتها وبرامج عملها. وكذلك أشار د. فايز الشهري لبعض مظاهر الانتهازية وتوجيه العمل التطوعي لخدمة أجندات سياسية وحركية في كثير من البلدان مما أفرغ العمل الخيري من نقائه. وأشار الشهري إلى أن مشكلة فردية العمل التطوعي تجلت في تحقيقات ما بعد أحداث 11 سبتمبر التي كشفت عن عدم وضوح الموارد والمصارف لكثير من المؤسسات الخيرية الإسلامية التي اتهمت بدعم المفهوم الأمريكي للإرهاب ما أدى إلى تصفية أو تحجيم الكثير من هذه المنظمات في كثير من بلدان العالم.

المعضلة الثانية هي مفاهيمية، حول مدى اعتبار تلك الجمعيات الدينية من مؤسسات المجتمع المدني، مما يعكس صعوبة قياس فعالية المجتمع المدني العربي. إذا أحصينا فقط المؤسسات الحداثية، فإن القطاع المدني يبدو ضعيفاً ومجزأ.. وهنا يذكر «يوم» أن لا عجب أن المتخصصين لا يثقون كثيراً بالنخب الليبرالية العربية المعنية بالمنظمات غير الحكومية المهتمة بالديمقراطية وحقوق الإنسان لأنها ضعيفة ومجزأة.. مثلما ذكر جون ألترمان في بحثه بعنوان الوعد الفاشل للبراليين العرب (The False Promise of Arab Liberal).

وثمة مزيد من الفوضى المفاهيمية، فهناك جمعيات لا تصنف لا منظمات مجتمع مدني حداثية ولا حركات إسلامية مثل: المجالس القبلية في اليمن، المجالس والأندية الطائفية في لبنان، الجمعيات غير الرسمية للمساعدة المتبادلة بالأحياء في المدن الكبرى كالقاهرة، المؤسسات الدينية التقليدية.. هذه الكيانات تجسد أشكالاً فريدة من التعبئة الاجتماعية، لكن كثيراً من المحللين يتجاهل قدراتها، مفضلاً التركيز على النمط الحداثي المألوف. هذا أيضا يدل على صعوبة مفهوم «المجتمع المدني العربي»، حيث تخفي الافتراضات المعيارية التي تعبر عن استحالة فرض نموذج وحيد للتغيير السياسي والاجتماعي.

ومن هذه الفوضى المفاهيمية يهاجم «يوم» أطروحة «المجتمع المدني العربي» وفرضيتها السائدة في التحليل السياسي تجاه العالم العربي اليوم، الذي يرى أن النشاط المدني القوي يتولد عنه تحول ديمقراطي. فالتوسع الأخير للقطاع المدني المؤسسي هو عمل استراتيجي من قبل الأنظمة الحاكمة وليس القطاع المدني، حيث تسمح تلك الأنظمة ب»حرية مقيدة» تنفيسية تحكم بها الدولة مزيداً من السيطرة على الحياة المدنية وليس مزيداً من الاستقلالية للمجتمع المدني.

هذه الاستراتيجية، حسب شون يوم، تقوم على ثلاثة عناصر. الأول هو المنع والإيقاف. والثاني هو أن الأوتوقراطية العربية تستخدم منهجية محكمة لضبط الصيغة القانونية التي تنزع فتيل النشاط المدني قبل أن يصبح مستقلاً. الأسلوب الأخير هو الانتقائية الغائية بين المؤسسات ودفع القطاع المدني من أجل الاعتماد على الدولة. على سبيل المثال، الأنظمة العربية تنشئ في كثير من الأحيان منظمات ظل تمارس وظيفة منظمات المجتمع المدني المستقلة فتسحب البساط منها بسبب قوة الأولى التنظيمية والمالية.. لينتج في نهاية المطاف مجتمع مدني له وجود ضعيف خارج إطار الدولة.

لكن ما الذي يجعل الدولة العربية قادرة على الهيمنة على الحياة المدنية؟ إنه نمط الاقتصادي الريعي.. بالنسبة للبلدان النفطية المسألة واضحة، فالدولة هي المظلة الأبوية تاريخياً وهي حالياً دولة الرعاية والرفاه ومصدر الدخل المالي للجميع بشكل مباشر أو غير مباشر.. فالإنتاج الريعي النفطي هو ملك للدولة، ومن ثم فكافة التشكلات الاقتصادية المستقلة وما يتفرع منها من مؤسسات مدنية تعتمد بشكل أو بآخر على التمويل المالي للدولة؛ فماذا سيكون حال المؤسسات المدنية إزاء اقتصاد تمتلكه الدولة؟ هنا لا استقلال مالي فعلي لأي مؤسسة مدنية بلا الدولة.

أما الدول العربية غير النفطية فإن نمط اقتصادها أيضاً ريعي بشكل ملتوٍ وقطاعها الخاص هامشي وبناؤها الاقتصادي هش تسيطر عليه الدولة، فهي ليست دول صناعية، بل تستند على المعونات الخارجية والتسهيلات التجارية، وتحويلات مواطنيها المغتربين، إضافة لإنتاجها النفطي، يصاحب ذلك متانة جهازها العسكري ومؤسساتها الأمنية التي تحكم القبضة على الشأن المدني.



alhebib@yahoo.com

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد