تحيلنا هذه الجملة على معنى مهم وأساسي يتضح عندما تنعكس الجملة، فنقرأ القراءة ثقافة، نعم القراءة ثقافة بكل تجلياتها، ومعلوم أن الثقافة مهما كانت أبعادها وصورها، لا يمكن اكتسابها بين عشية وضحاها، كما لا يمكن فرضها على كائن إنساني - يملك ثقافة مغايرة - بالسرعة التي يمكن أن نتصورها، لكنها بالمقابل يمكن أن تلقن وتكتسب بالتدريج عبر فتح كل السبل وتوفير الظروف المعينة على ذلك، ومن هنا أطرح السؤال التالي: هل الظروف مواتية لنكون شعباً قارئاً؟
مع العلم أن القراءة التي نقصدها هنا ليست القراءة الأبجدية أو القراءة التي تميز بين الأمي وغير الأمي، إنها القراءة التي تميز ما بين المتعلمين أنفسهم، إنها حب الاستطلاع وفضول المعرفة والتثقيف، هذا الفضول هو الذي يجعل صاحبه ينسلخ من أعذار ضيق الوقت والملل، هو الذي يجعل شهية صاحبه مفتوحة دائماً للقراءة، دون كلل ولا ملل، فكم مرة تحمسنا لقراءة كتاب ما لكن لا نكاد نتجاوز صفحاته الأولى حتى يتسرب إلينا الملل ونحكم على كتابنا هذا بالمؤبد بين رفوف خزانتنا، وهذا راجع حسب رأيي إلى استعدادنا النفسي المسبق، وإلى نوعية الكتاب كذلك، إذ نجد أن بعض المؤلفات نستمتع بقراءتها ولا نمل منها حتى ولو قرأنها مرتين أو أكثر...
ولعنصر التشويق دور كبير في ذلك، فالتشويق هو الذي ينزع الرتابة عن المؤلف (بفتح الهمزة) ويجعل قارئ هذا الأخير يتطلع بحماس لمعرفة التالي، وكلنا تابعنا كيف تحمس قراء الضفة الأخرى، وخاصة الفئة الشابة منهم، لاقتناء أجزاء سلسلات عديدة، متنوعة.. وفي الحقيقة تابعت مشهد الإقبال هذا والحسرة تغمرني وتساءلت في نفسي ما الذي جعل هؤلاء يقبلون على القراءة بهذا الشكل، وبهذا الحجم أليس لديهم - مثلنا - ما يلهيهم عن القراءة، من ملاهي وألعاب؟ بلى، إن لديهم من الملاهي أضعاف ما لدينا، لكنهم يملكون بالمقابل شيئاً مهماً لا نملكه نحن, ألا وهو (الثقافة الحقيقية القراءة) هذه الثقافة هي التي تجعل مشاغل الحياة لا تحجبهم عن حمل الكتاب، فهو خليلهم في المقهى والشاطئ والجبل، وللأسف هذا لا يحدث عند أمة قال أحد شعرائها: وخير جليس في الزمان كتاب.
فالطالب عندنا لا يكاد يقرأ حتى المؤلفات المقررة في الفصل الدراسي لأنه تعلم منذ البداية إلا يقرأ إلا ما هو مفروض عليه، مما يكبح مبادرته الفردية ويجعله حبيس المقررات الدراسية، فمن المؤسف أن تجد الطلاب بالجامعة على جهل تام بعدم معرفة كبار الكتاب...
علينا أن نلقن أنفسنا مبادئ حب الاستطلاع وفضول القراءة، وليكن الافتخار بيننا لا بالألبسة، بل بعدد الكتب التي قرأناها وفهمناها هذا الشهر، فأفضلنا هو من قرأ أكبر عدد من الكتب وفهمها وليس من يرتدي أحسن ملابس أو يركب أحسن سيارة فارهة...
إن هناك وسائل عدة تساعد على غرس حب القراءة أهمها وجود القدوة الحسنة والتشجيع المتواصل والتحفيز المستمر واختيار الكتب التي تحبب مهارة القراءة.
إنه من دون فكر وكتاب وثقافة لن يكون هناك أمل بمستقبل مشرق للمجتمعات والمجتمعات العربية تعتبر مجتمعات غير قارئة رغم وجود الوقت ووفرة الكتب.
وإن ثمة أسباباً تعيق غرس حب القراءة هي ربط القراءة بكثير من الأمور السلبية مثلاً عند دراسة الطفل يقال له (اقرأ) ونعني بها ذاكر دروسك، والمذاكرة مسألة قسرية ولا تتضمن أي متعة فترتبط القراءة لدى الفرد بحل الواجبات.
وأن من الأسباب التي تدفع إلى عدم القراءة هي العقاب فكثيراً ما نربط القراءة بالعقاب فنقول للطفل مثلاً (أنت لن تذهب معنا لأنك لم تنجز واجباتك فاجلس واقرأ).
وإن ثمة ربطاً شرطياً بين إضاعة الوقت والقراءة فالطفل يسمع عبارة (لا تضيع وقتك) عندما يمسك بكتاب خارجي للقراءة أو نقول (إذا كان عندك وقت فراغ فضيعه بالقراءة) بدلاً من (استثمره بالقراءة) أو (استفد من هذا الكتاب)..
وإن هناك وسائل ترفيه أصبحت أكثر من أن تحصى ومنها تلفزيون الألعاب الإلكترونية وأجهزة الحاسوب والإنترنت الذي تحولت إلى مستلب للأوقات الإيجابية ومهدد للجيل الجديد ودافع نحو الانعزال والتقوقع خلف أسماء حركية كما أفقدت تلك الوسائل الأطفال الشجاعة الأدبية في المواجهة والنقاش.
وإن لمكاتب خدمات الطالب دوراً سلبياً في عدم الإقبال على القراءة حيث حولت الوسيلة إلى هدف للحصول على درجة في المدرسة وحولت البحوث إلى عمل تجاري للكسب المادي.
وإن معرض الكتاب حول الكتاب إلى سوق موسمي ينتظر من عام إلى آخر لشراء مؤونة لعام كامل يستحيل معها أن تقرأ كلها وأنه لمساعدة الطفل على القراءة ثمة وسائل عدة أولاها أن يكون أمام الطفل قدوة حسنة يقلده وإذا لم يكن الطفل يرى والديه يقرأون كتباً فلن يتشجع على أن يقرأ بدوره أي كتاب.
وإن من الأفكار لإيجاد طفل قارئ هي الحث على القراءة اليومية لمدة 10 دقائق لكتاب من خارج المنهج الدراسي أي قراءة حرة وممتعة لكتاب من اختياره الشخصي ومع مرور الوقت ستتحول القراءة إلى عادة يومية تنمو وتتطور بنفسها.
وترك مجال للطفل لاختيار كتبه بنفسه وأن يفاضل بين الكتب ويطرح البدائل على أن يساعد الوالدان على الاختيار النهائي إذا وقع الطفل في حيرة.
وإن من الأفكار المشجعة على القراءة تشجيع الطفل على مقارنة ما يقرأه بما هو موجود مسبقاً في ذهنه من خلال مناقشته فيما يقرأ دون استخدام كلمات (ماذا تعلمت) أو (ماذا استفدت) والاستعاضة عنها بكلمات (أخبرني برأيك بالموضوع هل توافقهم على هذا الرأي).
وتأكيد أهمية الحرف والكلمة في (المنزل والشارع والإعلانات الصحافية المبوبة والمرفقة) بحيث تكون العلاقة مع الطفل مصحوبة دائماً بكلمات يحاول قراءتها ويحس بطعمها وفائدتها فيحبها دون أن يدري.
وإن من المهم تخصيص وقت للاستماع إلى قراءة الطفل والاستمتاع معه بالحصول على معلومة جيدة وتشجيعه على صياغة ما يقرأه بلغته البسيطة مبيناً أن التشجيع يكون عن طريق أشياء بسيطة مثل (ملصق) أو الخروج إلى فسحة في مكان يحبه أو حتى مجالسته بمتعة وجدانية لمشاهدة فلم أطفال هادف.
وصنع مكتبة للطفل يكتب عليها بالألوان ليجمع فيها كتبه وإن كان المنزل دون مكتبة فليبادر الأهل بوضع مكتبة في المنزل لجمع كتب أفراد العائلة بها. وعلى إدخال عادة إهداء كتاب باعتبارها هدية نجاح.
ولتعليم الطفل انتقاء الكتاب المناسب يجب السير معه في المكتبة (وليس القرطاسية) فإنه سيتعلم بنفسه دون عناء ومشقة اختيار كتابه مثلما تعلم دون جهد اختيار الشيكولاتة والبسكويت وأفلام الكرتون وغيرها.
وأنه بإمكان الأهل تحويل الطفل من محب للقراءة إلى داعية لها لأن الطفل يحب التميز عن أقرانه وعند تنمية القراءة لديه سيجد نفسه متفوقاً على غيره لأنه يقرأ وذلك مشابه لتباهيه بعرض ألعابه وأشرطته على أصحابه ومقارنة بذلك سيعرض عليهم كتبه ومحتويات مكتبته.