أثار الباحث المصري الدكتور سيد القمني قبل أيام جدلاً إعلامياً بدعوته الصريحة إلى بناء كعبة في سيناء، وتحديداً في وادي طوى تكون بمثابة مجمع لكل الأديان يقصده أتباعها بديلاً عن الكعبة المشرفة في مكة المكرمة، كما طالب المصريين
بالكف عن رحلات العمرة والحج لأنها استنزاف اقتصادي، والقمني بهذه الدعوة الخطيرة والفكرة الشاذة لا يأتي بجديد، فهو يعيش على موائد الإثارة ويطلب أضواء الشهرة، ولعلنا نذكر قبل أكثر من عامين إعلانه المثير ب (اعتزال الكتابة الفكرية والتأليف)، بل والبراءة من كل الأفكار التي تعد قدحاً في عقيدة الإسلام وطعناً في تاريخه التي ذكرها في مقالاته الصحافية وكتبها في مؤلفاته الفكرية وبحوثه التاريخية، أو قال بها في ندوات ثقافية أو مقابلات إعلامية خلال خمسة عشر عاما ً، وذلك على خلفية (تهديده) بالقتل الذي يقول: إنه تلقاه من جماعات دينية متطرفة كما صرح بذلك في حينه، لكنه عاد للظهور وكأنه نسي أو تناسى قضية التهديد، وعاد الرجل إلى سابق عهده، خاصة ً الكتابة التاريخية في أقبية التخريف المادية، مستنشقاً من خلالها منهج الماركسيين في (تفسيره المادي) للتاريخ الإسلامي وصولا ًإلى إسقاط (عقيدة التوحيد)، التي تمثل جوهر الدين الإسلامي، لذلك يبدو الأمر مألوفاً بالنسبة للقمني أن يدعو لبناء كعبة أو مجمع أديان أو أن يربط شعائر العمرة والحج بالبعد الاقتصادي، وذلك قياساً بأفكاره العقائدية الخطيرة التي لا تقل ضلالا ًعن تلك الدعوة، فسيد محمد القمني (المولود 1947م) والحاصل على شهادة الدكتوراه في (تأريخ علم الاجتماع الديني) لديه مواقف محددة وواضحة إزاء القرآن والإسلام والتاريخ، وهو يصف نفسه أنه (مادي).. ويتبع (مدرسة المعتزلة) العقلانية في طريقة التفكير ومنهجية الاستنتاج كما اعترف بذلك على قناة (الجزيرة) القطرية. فماذا يعني أن يكون ماديا ً ؟... يعني أنه يعتقد أن (المادة) سابقة لله في الوجود، وعليه لا يؤمن (المادي) بوجود حقيقي لله (سبحانه وتعالى)، فتكون النتيجة أنه لا يؤمن بأية علاقة بين الإله (الله الخالق) وبين الإنسان (الذي قد يكون نبيا ً) سواء ً نبوة أو رسالة أو وحيا، لأنه أصلاً لا يقول بوجود الله (جل في علاه). هذا الأساس الفكري (الفلسفي) هو ما بنى عليه سيد القمني مواقفه الدينية وكان منطلقا لأفكاره التاريخية، إذ يرى القرآن الكريم نصاً تاريخياً، والإسلام ديناً أرضياً، والنبوة فكرة هاشمية، هذه الأفكار وما يتصل بها تتضح لاحقاً.
فالقمني يعتبر القرآن الكريم (نصا ً تاريخيا ً بشريا ً)، وعلى هذا لا يرى أدنى ضرر أو تحفظ في وضعه موضع المساءلة النقدية أو الإصلاح الفكري، لأن هذا النقد لا يعني الردة أو الاستخفاف أو الكفر، بل خطوة جريئة لاقتحام مناطق مظلمة توقف عندها الكثيرون، فالقرآن في رأيه له بعدان أو جانبان، الأول (حقائق) تتناول أحداثا ً تاريخية وقعت بالفعل كغزوات الرسول- صلى الله عليه وسلم-، والآخر (رموز) أشبه ما تكون بالجانب الروحي أو الأسطوري للإنسان، التي ليس لها ارتباط بالواقع لأنها تتعارض مع قوانين المنطق والطبيعة، مثل رحلة الإسراء والمعراج أو نزول الملائكة في غزوة بدر، فحسب رؤية القمني أن القول بنزول الملائكة يتناقض مع حقائق أخرى في تاريخ الإسلام، فبرأيه لماذا يحتاج الرسول- صلى الله عليه وسلم- لإرسال عيون تستطلع أخبار قريش قبل الغزوة وبعدها والملائكة تنزل بين يديه ! هنا يتضح أثر التفسير المادي للقرآن، وهذا ينسحب أيضاً على موقف القمني من الإسلام الذي يرفض فيه الاعتقاد أن الإسلام (مفارق سماوي) كما هي الرؤية الإسلامية التي يسميها (الرؤى الأصولية)، لأن هذا الاعتقاد ينقض النظرية المادية التي تفسر ظهور الإسلام ب(بناء ً أرضيا ً) وهو تفسير يقوم على الفلسفة المادية المحضة، وليس (بناء ً سماويا ً) يُفسّره ويثبته النص القرآني والسنة الشريفة وواقع السيرة النبوية، لكون الإسلام في رؤية القمني (نتاج) الجاهلية بكل تعقيداتها وظروفها وصراعاتها التي تجلت في الصراع (الهاشمي - الأموي)، منذ أيام هاشم بن عبد مناف مقابل أمية بن عبد شمس بن مناف على المستويين الاجتماعي والاقتصادي (التجاري)، ومرورا ً بعهد عبد المطلب الذي شهد تحول الصراع من مناوشات وتنافس على الشرف المكي إلى مواجهات حاسمة قام بها عبد المطلب (جد الرسول صلى الله عليه وسلم)، الذي تربى في يثرب واطلع على مقدسات وكتب اليهود واستلهم منها تجربته (النهضوية) للعرب، لكونه يتمتع بوعي سياسي وفكر قومي، فانطلق يؤسس (دينا ً جديدا ً)، وأن قوام هذا الدين هو (الدولة) التي تقوم على يد (نبي) مزعوم هو في حقيقته (ملك)، فكان خيار (الملك النبي) حيث مهد عبد المطلب لذلك بالنسب من بني زهرة في يثرب عملا ً بنصيحة اليهود له. بعدها يأتي دور (الحفيد) وهو الرسول صلى الله عليه وسلم الذي سار على خطوات جده عبد المطلب.. فحقق التأمين الاقتصادي بالزواج من (سيدة المال) خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، ومن ثم بدأ في تحقيق النبوة، حتى أن القمني زعم أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد سرق أشعار أمية بن أبي الصلت واعتبرها وحيا من الله. مما سبق يتضح أن هذا الدكتور الباحث الأكاديمي يرى الإسلام دينا ً بشريا ً تولى مسئولية تأسيسه (الجد عبد المطلب) في جانب (التخطيط).. و(الحفيد محمد) في جانب (التنفيذ)، وذلك على خلفية صراع مزعوم بين البيت الهاشمي والأموي !
أما موقفه من التاريخ الإسلامي فيتجلى في أن القمني يعتبر الإسلام إفراز ً للماضي (الجاهلي) وهذا شأن كثير من الماركسيين، من حيث اعتمادهم (التفسير المادي) للتاريخ واستبعاد الغيبيات، لذا يلاحظ أنه قد أجهد نفسه في محاولات مستميتة لإيجاد جذور جاهلية مرتبطة بالإسلام وتحديدا من جانب النبوة، من خلال دراسة الوقائع التاريخية في السجلات والمخطوطات التراثية، لكنه لم يكن (أمينا ً) من جهة، ومن جهة ٍ أخرى لم يكن (عقلانيا ً) رغم أنه يقول باعتماده المنهج العقلاني، حيث جمع (الأسطورة التراثية بالحقيقة التاريخية)، بل ارتكز في كثير من استنتاجاته على الأساطير الموجودة في مخطوطات الإخباريين وكتب المؤرخين بالذات في العصر الجاهلي، كي يسهل عليه الادعاء أن الإسلام امتداد للعصر الجاهلي، وأن مسألتي الاقتصاد والاجتماع اللتين تسيطران على الحياة العربية في شبه الجزيرة العربية أسهمتا في ظهور هذا الدين.ولا أدل على افتقاره للأمانة العلمية وإخلاله بالمنهج العقلاني.. إلا سلوكه الفكري الذي يتضح في غياب (التحقيق الروائي)، فلم يعتمد على كتب المحققين في استنتاجاته الفكرية المبنية على الوقائع التاريخية، و(التحريف النقلي) حيث يقوم بنقل رواية معينة لحادثة تاريخية كي تعزز فكرته الأصلية مع إيراد المصدر لإعطاء القارئ انطباعا بصحة المعلومة، ولكن عند الرجوع لنفس المصدر تجد تبايناً واختلافاً.و(التدليس التاريخي) بإبراز أساطير أو معلومات مكذوبة تاريخياً إلى حادثة تاريخية صحيحة مع الإيهام بالمصدر. وكذلك (التغييب المعلوماتي) الذي يتمثل بمنهج القمني في إخفاء معلومات صحيحة لأنها تتناقض مع السياق الفكري العام لموضوعه (تأسيس الإسلام عبر البيت الهاشمي) كما في كتابه الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الإسلامية، حيث لم يتطرق للفارق الزمني بين عبد المطلب والبعثة النبوية، أو العلاقة الجيدة والمصاهرة بين البيتين الهاشمي والأموي، وبالذات زواج الرسول صلى الله عليه وسلم من أم المؤمنين أم حبيبة بنت أبي سفيان.. وغير ذلك من روايات صحيحة وأحداث تاريخية حقيقية تنقض هذه الفكرة الماركسية عن الإسلام.
إذا ًالذي راح يبحث في التاريخ وينقب في مناطقه المظلمة كما يصفها دون أن يلتزم المنهج العلمي الذي يقوم بالدرجة الأولى على (الأمانة العلمية) التي تعتمد الحقائق وليس الأساطير، و(المنهجية العقلانية) التي تقتضي التجرد من الأهواء الماركسية والفلسفة المادية، وقبل ذلك أن يحتكم إلى مرجعية معينة في محاكمته للنص التاريخي، فمن الطبيعي أن يخرج على الأمة بأفكار خطيرة ودعاوى ضالة كبناء كعبة أو مجمع أديان في وادي طوى بسيناء.
Kanaan999@hotmail.com