ليس من السهولة على الإطلاق أن تنتزع الإنسان من ماضيه، أو تجد ما يصرفه عن ذكرياته ومغامراته بين أروقة الماضي، والناس في علاقتهم بالزمن والمكان يختلفون باختلاف أثرهم فيه، ومدى تأثرهم بمجريات أحداثه، والشاعر الأديب (عبد الرحمن أبو حيمد) واحد من أولئك الذين أثرت غوابر السنين تجاربهم، ولم تشده المدنية، رغم تقلبه في أعطافها، ولم تستطع أن تصهر عواطفه المتأصلة الممتدة في الوتين والأوتار، من هنا بقيت قريته (العودة) بسدير من أولويات هواجسه وخواطره الشعرية. بقيت (العودة) القرية الصغيرة في سكانها، والبسيطة في مساحتها، الكبيرة في عيون عشاقها حاضرة في تنقلاته الكثيرة، لم تصرفه المغريات والمشاغل، رغم قوتها، وعنفها، وقساوتها، لم تمحُ عوامل التعرية صورة الفلاح، والراعي، والركيّة، والغروب، والواني، ومسامرات عشاق الطرب واللهو، لم تغب أبداً نجدها بقوله:
|
العودة اللي ما تعرف الرديّه |
بوادي سدير اللي به النخل مرزاق |
بين الفلاحة والدبش والرعية |
كل حمى نفسه عن العوز واملاق |
ما احلى على المجمار جاسة عشية |
فيه القمر يضوي على الكل شرّاق |
ما احلى الطرب لارددوا سامريّة |
والا الهجيني بين مادح وعشاق |
وحينما ينزع في شعره إلى مطالع حياته وبواكيرها ليتحدث عن فلسفته الذاتية العميقة، يأتي بصور مبتكرة، تنم عن شعور حي، وتعلّق قوي، وتربية اجتماعية حازمة فاعلة، فرضت عليه تحدي مصاعب الحياة، بضراوة أيامها ،ناقلاً بذلك هموم غيره من تجارب آبائه وأجداده الذين كابدوا الحياة أشدّ ما تكون المكابدة، وقاسوا الكثير من آلامها. بصور إبداعية وبمعاني تراثية قديمة، استمدها من الماضي بكل ما يحمل من قيم الرجولة، والإباء، والشهامة، والوفاء، يأتي قوله:
|
شربت بكفي ما عطانيه رجال |
مر كدر وامرار صاف غديره |
والرجل مثل الطير يسعى ويحتال |
يبني حياته، والمطالب كثيره |
خلقت بالدنيا بلا مال وعيال |
بروح منها والكفن لي ستيره |
ويبدو أن حياة الشاب مهما كانت قاسية لا تمنعه من انتهاز ملذاتها، واقتناص ما يبدو فيها من محاسن ومفاتن، إن بالطبيعة الصامتة أو المتحركة، وقد يكون ذلك ضرب من ضروب التقليد عند الشعراء، ومع ذلك لايستسلم لها، أو يطلق العنان لنفسه كيفما شاءت، أو أرادت، بل إن رقابة المجتمع، ويقظة ضميره جعلت وصله مع من يريد وصاله على قيد الانتظار، كماهي مشاعر أصحاب الغزل التقليدي العفيف، يقول:
|
أبنتظر شمسك تزيل العتامة |
لفحة سناها تبري العزم والحيل |
أبنتظر غيث الربيع وغمامه |
سحابة تسقي ضماي أول الليل |
أبنتظر بدرك يطل بتمامه |
ومهما تحملني من الصبر باشيل |
أكاد أجزم أنه من جملة شعراء عاشوا تجربتهم الوجدانية على الأماني، وبقيت صورة المرأة (الزوجة) حاضرة عندهم، فلا يكاد الشاعر ينطلق، أو يتحرر من قيود الأعراف حتى يتذكر الرقيب القوي، فيخشاه حيناً، ويقف احتراماً له حيناً آخر، وهو لون من ألوان الوفاء المتأصل عند شعراء نجد بالذات، يقول حينما تحدثه النفس، أو تغشاه الأحلام، أو ينازعه طموح لا يعدو كونه هواجس، يتلاشى ساعة الجدّ:
|
بديلها شبه الوضيحي بحلياه |
ما شيف مثله في الطرق والمجالب |
على النقى نلته، وبالشرع خذناه |
إيجابها غطى على كل سالب |
أم أحمد نسل الحرار ورباياه |
رفيقتي بالدرب من كنت طالب |
ومن الطبيعي أن تضعف الصورة الشعرية عنده، حينما يأخذ شعره منحى المجاملات، سواء كان في هذه القصيدة أوغيرها من شعر المناسبات. وأعتقد أن الشاعر تحوّل عنده الحب التليد لقريته إلى حب عارم للوطن الكبير الذي ترعرع تحت سمائه، لذا فهو يعلن في إحدى قصائده تعلقه بتراب وطنه، ملقياً عصا الترحال بعد أن جاب دياراً كثيرة، وطوّف في أمصار عديدة، يقول:
|
يوم السفر ودي أعوّد على الدار |
ما قوى على فرقى ديار حبيبه |
يوم الرجوع أرجيه كني على نار |
يوم السفر يمضي ونفسي كئيبة |
اليوم أشوف الركب يم الوطن دار |
تجذبني الأمواج لأرض نجيبه |
قد يفوت على كثير من الدارسين، أو القارئين لشعره حاضراً ومستقبلاً تلك الخواتم الدينية لقصائده كلها، وهي تنم عن تديّن الشاعر، وتعلقه بربه، إيماناً منه بأنه هو الرقيب والحسيب. وهذا بلا شك من الملامح التي تنم عن تربية صالحة، وحياة مستقيمة، تجلّت أبعادها هنا.
|
|